ذات مساء كان ضابط شرطة حديث العهد قد بدأ ساعات مناوبته الليلية في قسم شرطة العاصمة. كان الضابط الشاب قد اعتاد التغلّب على ملل المناوبات بقراءة روايات بوليسية، إلا أنه في تلك الليلة نسي أن يُحضر معه رواية كان قد بدأ بقراءتها قبل يوم. خرج إلى الشرفة، نظر إلى المدينة التي لا تنام، جلس على كرسي متداعٍ لدقائق، ثم وقف وسار إلى الرواق، وبعد حديث قصير مع الشرطييْن المناوبين، قصد غرفة «المحفوظات والأضابير» بعد أن تذكر أنه عادة ما يكون فيها عدد من الجرائد القديمة التي يمكن أن تساعده على قتل الوقت في تلك الليلة الطويلة.
«طفل ميّت»، كانديدو بورتيناري

كانت غرفة المحفوظات تبعث على الكآبة، بجدران مصفرّة وكابية الطلاء، وفي الزوايا خيوط شبكات العناكب ورائحة الرطوبة، تتوسطها طاولة مستطيلة، فيما تكدست على الأرفف عشرات الملفات المحشوّة بأوراق صفراء تكاد تفيض منها. وجد بعض الجرائد على الطاولة فحملها وهمَّ بالخروج لكنه تذكر في تلك اللحظة أنّ أحد زملائه قال له مرة مازحاً حين رآه يطالع رواية بوليسية: «أنت تعمل في قسم شرطة. هنا الواقع الحقيقي.. قصص وعجائب هي أكثر إثارة من كل رواياتك!».
عاد فأغلق الباب، وتناول أحد الملفات عن رف قريب، قلّبه بين يديه ثم تناول آخر، ثم آخر. كانت كلها محاضر مخالفات وأضابير لجرائم مختلفة لم يبد أنها أثارت اهتمامه، إلى أن حانت منه نظرة نحو ملف كبير على غلافه عبارة بخط أسود عريض (قضية مفيدة ضيف).. كان الملف مثقلاً بالغبار فنفضه بظاهر يده وسعل بسبب الغبار المتطاير..
طرقات خفيفة على الباب ثم أطل أحد الشرطيين المناوبين:
«هل أعد لك فنجان قهوة سيدي؟»
«لا، أشكرك.. لا أشرب الكثير من القهوة».
تلكّأ الشرطي في الذهاب وعاد ليسأل:
«هل أنت مهتم سيدي بهذه القضية.. مفيدة ضيف؟»
تفاجأ الضابط الشاب: «عم تتحدث؟!»
ثم نظر إلى الملف: «آه تقصد هذا؟.. لا ليس تماماً.. لكن لماذا تسأل؟ سيدي قضية هذه السيدة واحدة من أفظع الجرائم. تصور سيدي، قتلت أبناءها الثلاثة الصغار بدم بارد ثم اختفت!!».
«قتلت أبناءها الثلاثة؟ واختفت! كيف؟» تساءل الضابط متجهماً بعد أن عدّل من جلسته.
أجاب الشرطي: «هناك الكثير من الوقائع المجهولة سيدي في هذه القضية. لكن قيل إن المرأة ظهرت في عدة دول أخرى من دون أن تتمكن السلطات من القبض عليها.. حدثت الجريمة قبل عامين لا بد أنك سمعت بها».
ولم يكن الضابط الشاب قد سمع من قبل عن تلك القضية، لكنه هز رأسه موافقاً، فقد فكر أنه لا ينبغي له أن يبدو جاهلاً بحدث يعرفه رجال الشرطة العاديون. «نعم نعم. أعتقد أنني أذكر هذه القضية. ما أكثر الفظائع التي نصادفها بحكم عملنا .. حسناً يمكنك الانصراف». انتظر الضابط الشاب أن يغلق الشرطي الباب وراءه، وضع الملف على الطاولة ونظر إليه للحظات، طوى الغلاف وتعلّقت عيناه بالصفحة الأولى.

الواقعة
ثلاثة أطفال بأعمار الخامسة والتاسعة والثانية عشرة وجدت جثثهم على الشاطئ. الواقعة حدثت فجراً. أحد صيادي الأسماك اتصل بالشرطة التي حضرت فوراً إلى المكان. وأفاد الصياد الذي أبلغ عن الجريمة أنه شاهد امرأة تدور بين الجثث الثلاث على الشاطئ، وهي تصرخ «أولادي.. أخذتهم طيور السفينة الجانحة!. أنا قتلتهم. رميتهم بيدي هاتين إلى البحر!».
خلا الضبط الأولي من أقوال الأم فقد كانت في حالة صدمة كاملة. واستمر هذا الصمت بعد ذلك رغم كل محاولات التحقيق، وقد واصلت الهلوسة بعبارات متقطعة «أنا قتلتهم.. رميتهم بيدي إلى البحر». وأحيلت المرأة إلى المشفى مع الحراسة اللازمة، إلا أنّ حدثاً مفاجئاً طرأ بعد ذلك. اختفت مفيدة ضيف. اكتشفت ممرضة ذلك مساء اليوم التالي لإدخالها المشفى. كان الاختفاء أشبه بلغز محير، فالموقوفة كانت تحت تأثير المهدئات التي أعطيت لها كونها بدت في حالة صدمة، إلى جانب وضعها في غرفة في الطابق الثالث وبحراسة مشددة على الباب. إلا أن تعقيدات الواقعة كانت في الأوراق التالية التي قرأها الضابط في الملف؛ فالتحريات التي أعقبت اختفاءها أكدت أنه لا توجد امرأة على قيد الحياة اسمها مفيدة ضيف وأن المرأة التي كانت تحمل هذا الاسم وتسكن في الرشيدية ماتت قبل ثلاثين عاماً مع أولادها الثلاثة في قصف إسرائيلي على شاطئ صور!
توقف الضابط عن القراءة وهمس صوت في داخله: «هل هذا ضبط شرطة أم قصة خيالية كيف يمكن لذلك أن يحدث ومن هي هذه المرأة؟»

لعنة البحر
كانت مفيدة ضيف في الخامسة والثلاثين حين وقعت الحادثة. أهلها سكنوا في الرشيدية على شاطئ البحر في صور، لكن الإقامة «الشاطئية» لم تكن ترفاً فالمكان كان تجمعاً لبيوت عائلات من اللاجئين الفلسطينيين واللبنانيين، يتشابهون بفقرهم وشقائهم في تلك البقعة، حيث الرمال المتّسخة وموج البحر الذي يملأ الهواء أحياناً برائحة الملوحة والأسماك. من أدلوا برواياتهم وشهاداتهم من أهل المنطقة، أكدوا أنّ مفيدة كانت طبيعية تماماً، لطيفة وطيبة وقد حظيت بمحبة جيرانها والكثيرين من سكان الحي. أمها المقعدة قالت عنها إنها أحن بناتها عليها، أما أبوها فقد صمت منذ الحادثة حتى يوم وفاته، وكانت عيناه تفيضان بالدمع كلما ذكر اسمها.
وقد جاءت مفيدة ضيف إلى الدنيا بوجه جميل لكنه أقرب إلى ملامح الصبيان وقلب جريء، ولطالما كانت سند أخيها الأصغر حيال فتيان متنمّرين في الحي. ويزعم من يتذكّرها أنها في سن الخامسة عشرة استعدت للنزول في بئر سقط فيه طفل صغير وعادت به سليماً وسط تصفيق المحتشدين. لكن شجاعة مفيدة كانت تتوقف عند هيبة البحر. كانت تخشى البحر رغم أن بيت أهلها لم يكن يبعد عنه أكثر من مئة وخمسين متراً. وفي هواجسها التي عبرت عنها أمام صديقاتها أن البحر لا أمان له «فهو من قذف بأهلي من موطنهم في يافا إلى فقرهم وتشرّدهم وصبرهم الطويل». لكن أيضاً كان ثمة من يعزو خوفها من البحر إلى قصة خيالية أو هكذا تبدو، إذ يُقال إنها في طفولتها سمعت صبحية الغجرية تتنبأ بأن البحر سيتقدم ذات يوم بأمواج عملاقة من بيوت الرشيدية ويأخذ معه كثيرين. بيد أن خوفها من البحر أصبح أكبر بعد أن أخذت أمواجه زوجها، وقد حدث ذلك بعد أسبوع من موافقة أحد صيادي المراكب على أن يعمل معه. في تلك الليلة كان النور شديداً وتاهت مراكب كثيرة. فأشعل أهل الرشيدية نيراناً في أماكن عدة على الشاطئ ليستهدي بها الصيادون التائهون في اليم. عاد بعضها ولم يعد آخرون. ويُقال إنّ مفيدة كانت تحمل فانوساً وترفعه إلى محاذاة وجهها وهي تنظر إلى البحر بذهول وتردّد أنها سبب موت زوجها. كانت هي من أقنعته بأن يجرب العمل على مركب صيد بعد أن ضاقت به الدنيا!
لو أن الأحوال المادية كانت تسمح لمفيدة بأن تغادر الرشيدية لتسكن في مكان بعيد عن البحر لفعلت ذلك من دون تردد، لكنها كانت مضطرة للانتقال إلى بيت العائلة مع أولادها الثلاثة، وكان عليها، لتتمكن من إعالتهم، أن تقضي معظم النهار في ورشة خياطة في المدينة. صبرت وكابدت وأمّنت لأطفالها حياة ممكنة إلى أن وقعت المأساة الأكبر في حياتها. «لا تقربوا من البحر!.. العبوا في أي مكان إلا الشاطئ.». من زعموا أنهم كانوا جيران العائلة قالوا إنهم يتذكرون عبارة التحذير تلك التي كانت تحيط بها أولادها كلما تجاوزوا باب البيت. كان البحر في خيالها صورة للوحش والمصير القاتم. ولم تكن تجدي أي محاولة لإقناعها بالعدول عن مخاوفها التي بدت لكثيرين ساذجة. إلى أن جاء ذلك اليوم حين شاهد أهل الرشيدية باخرة ضخمة تجنح قبالة الشاطئ.

طيور الموت
كما اتضح من تقارير الجهات المختصة كانت الباخرة التي تحمل العلم النرويجي قد اقتربت من السطح الضحل المياه وعلقت في الرمال. وقد تدفق معظم أهالي الرشيدية إلى الشاطئ، فذلك المشهد كان حدثاً فريداً. وخلال ثلاثة أيام قبل أن يتم سحب الباخرة وإعادتها إلى البحر، أصبح الشاطئ أشبه بمنطقة مهرجان شعبي متواصل يأتيه الناس حتى من أماكن بعيدة لمشاهدة جنوح الباخرة وهي تقف مائلة قليلاً بشكلها الانسيابي وبالخطين الأزرق والأحمر على امتداد طولها وبالانسجام الهرمي الجميل لطبقاتها الثلاث التي يعلوها هوائي ضخم، وبحركة بعض طاقمها ممن يظهرون كلمحة على شرفاتها ثم يختفون. وكانت الصورة الأكثر إدهاشاً مشهد حومة كثيفة من طيور البحر والألباتروس ظلت تطوف فوق السفينة كغيمة وتتزايد طوال ثلاثة أيام. يُقال إنّ مفيدة تخلّت عن قيودها الصارمة بعد ذلك الحدث، حتى أنها في اليوم الثالث أخذت أبناءها لمشاهدة السفينة عن قرب، ولو بالكثير من دقات القلب والتوجّس. لكن ما إن غابت شمس نهار ذلك اليوم وخلا الشاطئ من المتجمهرين بعد أن تم سحب السفينة بنجاح فأبحرت إلى عمق البحر وتلاشى هيكلها في الأفق البعيد، حتى سمع أهل الرشيدية صراخاً ناحباً مشوباً بالهلع. كانت مفيدة ضيف تركض جيئة وذهاباً على بقعة من الشاطئ وهي تصرخ: «أولادي أخذتهم الطيور! طيور السفينة قتلت أولادي. أنا من فعلت هذا بهم قتلتهم، أنا رميتهم للبحر!». الغريب أن تلك لم تكن الرواية الوحيدة، فقد روى آخرون وقائع مختلفة أخرى للحدث: قيل مثلاً إن مفيدة لم تقل إنها هي من قتلتهم، وقيل أيضاً إن الشرطة حضرت وقتذاك، أي قبل ثلاثين عاماً، إلى المكان لكنها لم تجد حاجة لتنظيم ضبط والقيام بمزيد من التحريات لأن العنصر الأساسي لأي جريمة لم يكن موجوداً أي جثث الأولاد الثلاثة، وبالتالي لم تكن هناك جريمة، على الأقل بنظر القانون! أما الرواية الأكثر انتشاراً فهي أن هناك أطفالاً ماتوا بالفعل على الشاطئ في زمن الحادثة، لكن في قصف للطائرات الإسرائيلية ويبدو أن ثمة تداخلاً في الروايات وأزمنتها، بل وربما أيضاً بشأن أشخاص تلك الحوادث وأسمائهم الشخصية!
****
«أي قضية جنائية هي هذه؟ لا شيء واضحاً أو حتى مهنياً» هكذا فكر الضابط الشاب، وهو يقلب صفحات أخرى. في كلية الشرطة تعلم أن يتعامل مع الوقائع الملموسة لكنه هنا أمام ملف يخالف تلك القواعد. عاد ليراجع ما قرأ: «حسناً هناك حادثة غامضة وقعت قبل ثلاثين عاماً كما يقول الشهود إلا أنه لا شيء واضحاً بصددها وهي متعددة الروايات ولا أوراق رسمية بشأنها. وهنا في الملف حادثة جرى التحقيق بها قبل سبع سنوات، حيث تم العثور بالفعل على جثث الأطفال إلا أن المشتبه بها المدعوة مفيدة ضيف اختفت! هل هذا كل شيء؟!» في الصفحات التالية لم يعثر الضابط الشاب على ما يشبع تساؤلاته الكثيرة. ليست هناك نهاية واضحة واتجاه واحد واضح للحادثة بل إن الإشارات التالية (غير المهنية كما وصفها في نفسه) كانت تقدم استنتاجات غريبة، يبدو كي يتخلّص المحققون آنذاك من إحباط هذه الحادثة وتعقيداتها. هناك بالفعل امرأة اسمها مفيدة ضيف. المرأة اختفت فعلاً كما يؤكد ضبط المشفى واستجواب المرضى والحارس، لكن – وهذا لغز آخر- لم تحدد هوية جثث الأطفال الثلاثة. ثم ينتهي الضبط بإشارة بالأحمر في ذيل التقرير، تقول العبارات الأخيرة:
«كان هناك أمر لم نستطع تفسيره، فقد تم أخذ العلم من مصادر مختلفة أن حوادث مشابهة بغرابتها تماماً وقعت على شواطئ غزة وتونس وليبيا ومصر وسوريا والعراق وبلدان عربية أخرى. القتلى أطفال دائماً، أما الأمهات فلهن أسماء مختلفة. وقد ظهرن نائحات على الشاطئ وهن يصرخن بأن طيور السفن قتلت أبناءهن، ثم اختفين بعد ذلك. اختفين تماماً كما حدث للمشتبه بها مفيدة ضيف!»