الأشياء المُستعبَدة والمُستلبَة القابعة في ظلمة بلدنا المعطَّل لا تعدّ ولا تحصى. يد الدمار تمسّ كلّ شيء تلمسه. الهواء ملوّث، الجبال تحطمها الكسّارات، معدل الإصابات في السرطان تفوق الخيال، ناهيك عن جحيم أمني واقتصادي يعيش فيه سُكّان هذا البلد، أمّا «الكائنات الصغيرة» التي تعيش في جوار هؤلاء، فكلّ ما سبق يعنيها أيضاً. عرفناها في سياق الفوضى التي يعيشها لبنان كصوت للذين لا يملكون ملكة الكلام. غنى نحفاوي، ناشطة في حقوق الحيوان... هكذا نعرّفها نحن الذين نعرِفها شخصياً أو افتراضياً، أمّا هي فتخبرنا أن تعريف «ناشطة في مجال الدفاع عن حقوق الحيوان» لا يزعجها بأيّ حالٍ من الأحوال، وإن كان حصر «شخصيتها» بهذا الشكل تحديداً يشكل لها ظلماً على نحو معيّن، فالذين تقابلهم صدفةً ويسألونها: «أنتِ غنى «تبعيت» الحيوانات؟» يضحكونها. إلى جانب شغفها في الدفاع عمن لا يستطيعون الكلام، إلا أنك ستجد غنى نحفاوي أين ما دبّت يد الظالم وحلّ الظلم، فغنى مثلاً كانت من العناصر الأساسية في لجنة المُتابعة لدعم المُعتقلين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وأحد الموثّقين، يوماً بعد يوم لجرائم الاحتلال في حرب تموز. تقريرها سيذهب إلى الأمم المُتحدة مُفصّلاً ومفنّداً مجازر الظالم؛ جيش الاحتلال الإسرائيلي، وهي إذ تذكر ذلك ليس استعراضاً كما أكدت وكما نعرف عنها، بل فقط لأن الشيء بالشيء يُذكر، فأينما حلّ الظلم أرادت غنى أن تعانده.


لقد ترعرعت غنى نحفاوي منذ طفولتها على حب الحيوانات والرأفة بها. كانت جدّتها تقول لها: «إن الخطأ ممكن ووارد، ولكن إن استطعتِ أن لا تفعليه، فلا تفعليه، أي لا تدوسي على «خطّ النمل» وهو في طريقه إلى مخبأه». زرعت جدّتها باكراً في داخلها بذور «الخير»، لتكون غنى نحفاوي هي غنى نحفاوي التي نعرفها اليوم. عند سؤالها عن اللحظة التي كرسّت فيها حياتها للدفاع الخالص عن تلك الكائنات المضطهدة، أي الحيوانات الأليفة أو البريّة التي طردها الإنسان من أرضها ويطاردها بالقتل والتهجير، بكت بحرقة وألم بعد تذكرها حادثة وقعت منذ حوالي التسع سنوات، في جريمة قد انتشرت مسجلة بالفيديو على مواقع التواصل الاجتماعي، لشخص وضع فوهة بُندقيته في فم كلب وأطلق النار عليه. الظلم الذي شاهدته غنى كان كفيلاً ليفجّر عاطفتها، فكانت تلك الحادثة بداية مسار إنسانة لا يمكنها أن تبقى مكتوفة الأيدي في مسائل تخص تعذيب الحيوانات وقتلها. في ذلك الحين قامت غنى نحفاوي بإصدار عريضة تنديد وملاحقة قانونية، وقد استقطبت ما يزيد على عشرة آلاف توقيع جرى إمضاؤهم «أونلاين». حينها قاموا بتوكيل محامٍ مُختص في الجرائم الجنائية، واستطاعوا الاقتصاص من الجاني. لا يمكن القول إن العقاب كان كافياً، لكن على الأقل، فقد صودرت بندقية الجاني، وهذا خبر مفرح في بلد لا يعرف القانون مثل لبنان.
في خضمّ الصراعات الدائرة حولنا طوال الوقت، ننسى أن الكوكب تقطنه أيضاً كائنات أخرى. كائنات لا تقلّ أهمية عنا، فكلّ حيوان كما يقرّ قانون الطبيعة، يكمّل الحيوانات الأخرى، وبالتالي للأنواع الأخرى، وهكذا تكتمل دورة الحياة. بالحفاظ على الأنواع نحافظ على أنفسنا. أن نُحافظ على الثروة الحيوانية ذلك يعني الحفاظ على حياتنا. الحيوانات التي تعيش بيننا تملك مشاعر لا تقلّ عن مشاعر الإنسان. هم أيضاً يحتاجون للدفء، والأمان، والمساحة. الفكرة الأساسية تقتضي بل تشترط، عدم أذية الحيوان، لأنه ليس من حقنا أذية أي أحد، والفكرة الأساسية الأخرى تفضي إلى تقبل حقيقة أنه علينا العيش مع الحيوانات، وهذا ما تتطلبه صيرورة الحياة نفسها كون وجود الإنسان مقرون بوجود الحيوانات أيضاً. فليس لغنى نحفاوي أي مطالب أيديولوجية مثل أن يتحول أحدنا إلى نباتي، وليس لها أي طموحات كبيرة، بل كل ما تطلبه، وهي تطلبه لأجلنا، هو أن لا يحضر القتل وخصوصاً إن كان دافعه اللذة، لذلك فهي تسخر من اعتبار الصيد هواية أو رياضة.
في بلد مثل لبنان ثمّة صراع كبير على الأولويات، والأولويات هنا هي بالأساس ضرورات ضيّقة تخص العيش، لا تتوقّف الأسئلة الساخرة تنصبّ على غنى نحفاوي تحت مسوّغ سياق الأولويات هذا، يقولون: «البشر عم يموتوا، بالك بالحيوانات ولك يا غنى؟». تُجيب غنى عليهم بحججٍ موثقة، هي المليئة بالعاطفة، المنحازة لكل مظلوم، تدرك استعمال المنطق جيّداً. «على الصعيد المنفعي، لو عرف البشر كم تساعدهم تلك الكائنات التي ينفون وجودها، لما نام على سريره من يقتلها أو يعنّفها» تقول. صحيح أننا نرزح تحت وطأة البؤس الاجتماعي والاقتصادي، ولكن ما ذنب الحيوانات بما يحدث لنا؟ تطرح سؤالها ساخرة ثم تجيب: «بلد يعيش هذا الحضيض كيف يملك كل هذا العدد من الخرطوش؟». تدعّم غنى موقفها من ضرورة الحفاظ على الحيوانات كضرورة «نفعية» جراء وجودهم بضربها لمثلين. الأوّل وهو طير «الكيكو» الذي بات على شفير الانقراض بسبب الصيد الجائر، وهو إلى جانب طير «الصفراية» قادر على حماية شجر الصنوبر من «دودة الصندل». أما المثل الثاني، فتخبرنا التالي: «يقول المزارعون إن الخنازير البرية تخرب لهم محصولهم. كان لدينا ذئاب رمادية تقتات على صيد هذا النوع من الخنازير، ليأتي من ثم الواوي ويأكل ما تبقى من الجيفة، ثم تقتات عليها الطيور الجارحة، ليأتي أخيراً الحيوان الذي يملك أعلى نسبة من الأسيد على وجه الأرض وهو الضبع، وينظّف ما تبقّى من المخلفات. على هذا النحو تكتمل دورة الحياة بشكلها الصحي والسليم، وتمنع الضرر عن الجميع وأوّلهم المزارع، فكيف نتحدّث هنا عن تفاوت في «أساس» الأولويات؟»
تقول غنى نحفاوي «إن الشخص القادر على ضرب أو قتل حيوان هو إنسان قادر على فعل أيّ شيء. العديد من الدراسات أثبتت أن القادر على فعل التوحش هذا يُعتبر شخصاً مُضطرباً، ومن المحتمل أن يؤذي أقرب الناس إليه. فالقادر على ضرب جرو صغير قادر على تعنيف طفل». لكن أين دور البلديات من كل هذا، وما هم بفاعلين؟ لدى غنى نقمة على تسعين في المئة من البلديات لأنها تضع على عاتقهم أزمة الكلاب الشاردة والتي غالباً ما تكون محطّ قتل وتعذيب. «لدينا 60 ألف كلب شارد بسبب إهمال البلديات، ويمكنكم كما ذكرت الاضطلاع على المادة 12 لقانون الرفق بالحيوان رقم 47/2017، والتي لو طبقت لكانت هذه المشكلة قد حلت»، تقول. فالمادة أساساً تمنع القتل العشوائي الذي يحدث كل يوم، وتوقف هذا التخلي المتوحش عن تلك الكائنات ما يجعلها مفترسة نتيجة الجوع والبرد والعطش. ناهيك عن استخدام السم من البلديات لفعل مذابح جماعية بحق تلك الكائنات التي لا تستشرس إلا للدفاع عن نفسها. أمّا عن الدولة اللبنانية ومواكبتها لعمل غنى وتوفير المساعدة اللازمة لها في عملها، فلقد استطاعت بتعبها الدؤوب عبر السنين أن تجبر الدولة بشكلٍ محصور على بعض الشخصيات التي تتجاوب دوناً عن الأخرى، أن تقوم بواجبها. فهناك مثلاً الكثير من مخالفات الصيد التي تخرق المادة 580 المذكورة في القانون، وجرائم تعنيف الحيوانات، وقد كان العميد جوزيف مسلّم يوصل جميع الشكاوى إلى المخفر المختص للمتابعة، فكان التجاوب موجوداً في الكثير من الحالات، وهي إذ تشكر جميع المنصات الرقمية والجهات الإعلامية التي أصبحت تتناول في الفترة الأخيرة مواضيع تعنيف الحيوانات أو الصيد الجائر، مستمدة اهتمامها من مهام غنى نحفاوي، ومن تغطية الأخيرة لكل شاردة وواردة تخصّان عالم الحيوانات المعذبة.
لا تنسب غنى الفضل لنفسها. صحيح أنها فرد له علاقاتٍ تفتح لها أبواب المساعدة لكنها غير منضوية تحت لواء أيّ جمعية. غنى تتعامل مع بعض المقربين ومع بعض الجهات الرسمية، وتؤكّد أن معظم حالات التبني والإنقاذ يأتيان من قبل عائلات أو أفراد يريدون التبني. ولسد الفجوة من أساسها، أي معالجة المشكلة من جذرها، فتقول غنى إن مسألة «الرمي» العشوائي للحيوانات على الطريق فمردّه «حنفيتان»، الأولى تتمثل في تجارة التزاوج ذلك للبيع بالتالي الاستثمار بالحيوانات الداشرة والربح منها، و«الحنفية» الثانية هي الاستيراد. فلبنان «قد وقّع على معاهدة «سايتس» التي تمنع الإتجار بالحياة البرية، أين وزارة الزراعة المتعاقبة من هذا الموضوع» حيوان النسناس مثلاً الذي يوضع كزينة في بعض المنتزهات والمطاعم ممنوع دخوله إلى لبنان!»، تقول. والموضوع غير محصور بحالات فردية تبتغي التسلية فقط، بل إن كلّ ما ذُكر، من صيد وتجارة والتزاوج للبيع والتسميم، تدخله العصابات من الباب الأوسع.
سألت غنى نحفاوي ختاماً: «ماذا تطلبين منّا؟». تطلب أن نتوقف عن الأذية المُتعمدة. وأن يتوقف الجميع عن إزاحة مشكلات حياته التي لا يستطيع التعامل معها من غير أن يسقطها على كائنات أضعف منه لا حول لها ولا قوة. علينا أن نضع في بالنا جميعنا أننا لسنا لوحدنا في هذا العالم، كما أننا لسنا وحدنا من يملك روحاً تتعذب، وقلباً يجزع، ومعِدة تجوع. تقول «أطلب أن يتآلف الناس أكثر مع الحياة من حولهم، اشترِ لطفلك لعبة أو دمية، ولا تشترِ له صوصاً ملوّناً ليعذبه حتى الموت، سيكبر ويصبح متنمراً وعنيفاً وقد يصبح يوماً ما مجرماً. إن لم نستطع العيش بألفة مع الكائنات من حولنا، فلن نستطِع العيش بسلام مع بعضنا».