حتى اليوم، لم يأتِ الانفتاح العربي على دمشق بأي نتائج إيجابية تُذكر؛ إذ بقيت الوعود بمساعدة سوريا، والبدء بتخفيف آثار الحرب عنها، وإطلاق عملية إعادة الإعمار فيها، حبيسة القاعة التي شهدت اجتماع «مجلس جامعة الدول العربية»، في مدينة جدّة، في أيار الفائت. صحيح أن سوريا استقبلت عقب الزلزال الذي ضربها وتركيا، مساعدات إنسانية من دول مختلفة، وفي مقدّمتها الإمارات وإيران، إلا أنها لا تزال تلك المرة الأخيرة التي استقبلت المطارات السورية فيها، طائرات إماراتية خصوصاً، وعربية عموماً، ضمن مساعدات عينية أو مالية، أو حتى استثمارات وتبادلات تجارية جدّية. في المقابل، تستفحل الأوضاع الإنسانية والمعيشية الصعبة في سوريا، إلى حدّ يمكن معه القول إن «عام الانفتاح العربي»، هو نفسه العام الأكثر صعوبة على المستوى الاقتصادي. فمع الأخذ في الاعتبار معدّل التضخم في سوريا، فإن مشروع ميزانية عام 2023، بلغت قيمته نحو 3.6 مليارات دولار (بحسب سعر الصرف الرسمي حين إقرارها)، مقارنة بـ5.3 مليارات دولار في عام 2022، و6.8 مليارات دولار في عام 2021، مع الإشارة الى ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة السورية، بشكل ملحوظ خلال الشهور السبعة الماضية، ما يعني انخفاض قيمة الموازنة بالدولار أكثر فأكثر، إلى نحو 1.9 مليار دولار، نسبة إلى سعر الصرف الرسمي الشهر الفائت.
إحباط «الانفتاح العربي»
على رغم تعدّد العوامل المساهمة في غير صالح السوريين، إلا أن العامل الأكثر تأثيراً، يظلّ تمكّن العصا الأميركية الغليظة، بفعل العقوبات المتعدّدة الأوجه المفروضة على سوريا، والتحذيرات العلنية، والتهديدات الخفيّة، من إحباط أي نوايا كانت لدى دول عربية لتقديم مساعدات حقيقية لدمشق. وفي هذا الإطار، تؤكّد مصادر سورية مطّلعة، لـ«الأخبار»، أن «كل الوعود الإماراتية والسعودية بمساعدة سوريا، وتفعيل الاستثمار فيها على عدة مستويات، بقيت كلمات على الألسن، وحبراً على الورق، ولم يُترجم أي منها على أرض الواقع». وتضيف المصادر أن «القيادة السورية لا تخفي استياءها من عدم انعكاس الانفتاح العربي عليها، إيجاباً على أوضاع الشعب السوري المعيشية والإنسانية، وهي تحمّل واشنطن مسؤولية تجويع السوريين». لكن مسؤولية الولايات المتحدة هذه، لا تُعفي دولاً عربية، كالإمارات والسعودية، من مسؤولية الإخلال بوعودها للقيادة السورية، بأن ينعكس الانفتاح السياسي مساعدات واستثمارات خليجية، خصوصاً أن البلاد تعيش هذه الأيام استقراراً أمنياً نسبياً.
نجحت التحذيرات والتهديدات الأميركية في إحباط أيّ محاولات استثمارية جديدة


وفي الإطار نفسه، تكشف مصادر ديبلوماسية عربية أن «المسؤولين الإماراتيين وعدوا نظراءهم السوريين بضخّ أموال واستثمارات في البلاد، بعد عودة سوريا الى جامعة الدول العربية، وقلّلوا من قدرة العقوبات الأميركية على منع ذلك»، لكن مع مرور الوقت «تبيّن أن العقوبات الأميركية، والتحذيرات التي وجّهها الأميركيون إلى المسؤولين الإماراتيين والسعوديين وغيرهم، تمكّنت بالفعل من إحباط أي محاولات استثمارية جديدة في سوريا». كذلك، تفيد مصادر سورية بأن «ثمّة مشاريع استثمارية إماراتية موجودة بالفعل في سوريا، لكن العمل مجمّد فيها، بذريعة الأوضاع الأمنية غير المستقرّة، إلا أنها لم تُلغ»، وهو ما يؤشّر ربّما إلى توفّر «إرادة إماراتية بتفعيل الاستثمارات، لكن ما يحول دون ذلك هو واقع العقوبات الأميركية». وبشكل تفصيلي، تشير المصادر إلى «الاتفاق الذي وقّعته وزارة الكهرباء السورية، في تشرين الثاني 2021، مع تجمّع شركات إماراتية، لإنشاء محطة توليد كهروضوئية قرب العاصمة دمشق بطاقة إنتاجية تبلغ 300 ميغاوات، وتأمين التمويل اللازم للمشروع عن طريق تسهيلات تُسدّد بأقساط ربع سنوية لمدة عشر سنوات، على أن تكون فترة تنفيذ المشروع سنتين»، مستدركةً بأن هذا الاتفاق «لم ينطلق العمل به أبداً، لأن الشركات الإماراتية تلقّت تحذيرات أميركية مباشرة، بوضعها على لائحة العقوبات في حال مضت بالمشروع»، على الرغم من أن الاتفاقية كانت بـ«تغطية» إماراتية رسمية، ووُقّعت بعد يومين فقط من لقاء وزير الخارجية الإماراتي، عبد الله بن زايد، الرئيس السوري، بشار الأسد، في دمشق، خلال الزيارة التي أعلنت عملياً مسار عودة سوريا إلى «الحاضنة العربية».

العراق بديلاً؟
بناءً على ما سبق، وفي ظلّ الإصرار الأميركي والغربي على منع أي انفتاح جدّي على دمشق، وقرْن ذلك بتنازلات سياسية واضحة من القيادة السورية، وجدت الأخيرة نفسها أمام خيارات محدودة، لا تخرج عن قدرات حلفائها التقليديين، في طهران وموسكو. لكن بالنسبة إلى روسيا، فقد بدا واضحاً تراجع الاهتمام كما يراه البعض، أو القدرة كما يراها البعض الآخر، بالملف السوري، وخصوصاً لناحية الاقتصاد والاستثمار والبناء والإعمار، في ظلّ الحرب في أوكرانيا. وفي هذا السياق، تؤكّد مصادر دبلوماسية مطّلعة أن «الروس أيضاً لم يفوا بوعودهم للحكومة السورية على المستوى الاقتصادي، بينما يحافظون على حدّ مقبول من الدعم العسكري، وحدّ مرتفع من الدعم السياسي». وتكشف المصادر أن «الرئيسين السوري والروسي اتفقا خلال لقائهما في موسكو في آذار الفائت، على خطوات لدعم سوريا على المستوى الاقتصادي، إلا أن ذلك لم يُنفّذ حتى اليوم، فيما من الواضح أن الحرب في أوكرانيا، وآثارها الاقتصادية العميقة، أثّرت على قدرة الدولة والشركات الروسية على الاستثمار في الخارج، وعلى حركة رأس المال الروسي».
أما من جهة إيران، فهي مستمرّة في دعمها سوريا على مستويات مختلفة، علماً أنها - منذ سنوات - تمدّ من دون انقطاع، البلاد بحاجاتها من المشتقات النفطية المختلفة. كذلك، نفّذت وتنفّذ الشركات الإيرانية عدة مشاريع استثمارية، خصوصاً في مجال بناء الطرق والبنى التحتية. ولكن القدرة الإيرانية الاقتصادية تبقى في نهاية المطاف محدودة ومكبّلة بالحصار المفروض على الجمهورية الإسلامية، والعقوبات التي تعيق عمليات بيع النفط وغيره من السلع، وتمنع حصول إيران على حاجتها من العملات الصعبة. وانطلاقاً من هذا الواقع، بدا ضرورياً إشراك طرف جديد في «شبكة» دعم سوريا، ليس هو إلا العراق، «الصديق» لسوريا وإيران، والجار لهما، والذي تربطه بهما حكماً مصالح سياسية وأمنية واقتصادية. وبناءً على ذلك، كانت زيارة رئيس الحكومة العراقي، محمد شياع السوداني، الأخيرة لدمشق، لتعلن صراحةً رفع التنسيق والتعاون بين البلدين إلى مستوى جديد، على مختلف الأصعدة، وبشكل خاصّ على الصعيد الاقتصادي. وينطلق السوداني في خطوته هذه، من محدّدين اثنين: الأول، هو أن سوريا عادت إلى «الجامعة العربية»، وعلاقاتها مع دول الخليج باتت مقبولة وفي تحسّن، وبالتالي لم يعد يشكّل التحرّك العراقي تجاهها خرقاً لما يسمّى «الإجماع العربي»، بل على العكس من ذلك، هو يحظى بتغطية وربما دعم بعض الحكومات العربية. أما المحدّد الثاني، فهو حيازة العراق نوعاً من «الاستثناءات» الأميركية من العقوبات المفروضة على إيران في تعاملهم مع الأخيرة، والتي يؤمّل أن تنسحب على تعاملهم مع سوريا. وحتى لو تعذّر هذا الاستثناء، فإنه لن يشكّل مانعاً كاملاً كما هو الحال بالنسبة إلى دول عربية أخرى، بالنظر إلى «اعتياد» الشركات ورجال الأعمال العراقيين على العقوبات، وامتلاكهم أدوات كثيرة للالتفاف عليها.