سوريا: آذار رابع... ولا ربيع | ريف دمشق | كان العام الأول للحدث السوري، في 2011، سلمياً في مدينة داريا. لم يكن القرار بتسخين جبهتها قد اتُخذ بعد. النهج السلمي للاحتجاج في المدينة بين آذار 2011 وكانون الأول 2012، قوبل بعدم التدخل الواسع من «الطرف الآخر» طالما أن الأمور لم تنحُ منحى العسكرة. «طوال هذه الفترة، انقسمت داريا بين معارضين سلميين ركّزوا على تنظيم التظاهرات، وبين من كان ينظِّم شباباً للانخراط في العمل المسلح عندما يحين موعده»، بحسب الناشط المعارض عمر أبو حمرة.
يروي أبو حمرة لـ «الأخبار» قصة المتظاهر غياث مطر، صاحب فكرة تقديم الورود والمياه للجيش كبادرة حسن نية. ولكن «لم يكن لهذا الأنموذج، وهو موجود بكثرة في داريا، مكان في معركة أراد لها المخططون أن تتحول إلى عصيانٍ مسلّح دفع السلميون ثمنه».
في الغوطة الشرقية، التي خرجت مبكراً إلى المعركة المسلحة، يؤكد ع. النداف، الناشط في «تنسيقيات زملكا»: «كنا ننظر إلى معركة داريا كإحدى الجبهات الحاسمة في وجه النظام. هذا ما كان يروّج له قادة الألوية في الغوطة الشرقية، في معرض ردهم على استياء البعض من تأخير الحركة المسلحة في داريا. كانوا بالفعل يعتقدون أنها آخر المعارك لإسقاط النظام».
مطلع عام 2012، بدأت أولى مظاهر العسكرة في داريا. في 21/ 1/ 2012، خرج حوالى 150 مسلحاً في استعراض عسكري داخل المدينة. لم يكن هذا الاستعراض متوقعاً حتى للأهالي الذين وقفوا مشدوهين أمام الاستعراض الذي بدا أشبه بالاقتحام. يروي مهند، أحد الشباب اللاجئين إلى لبنان، إثر تطورات المشهد في داريا: «في حينه شعرنا بأن هناك من يريد استدراج الجيش إلى داخل داريا. بدأت التنسيقيات والصفحات الإعلامية، في وقت واحد، بالترويج للسلاح وتحقير العمل السلمي، وكأن هناك من أطلق شارة البدء بدفن السلمية».
رغم ذلك، لم يتدخل الجيش في داريا إلا بعد استهداف «الجيش الحر» موكباً لعناصر أمنية، أسفر عن سقوط أكثر من 30 منهم بين قتيل وجريح. ومع إطلاق «الجيش الحر» عملياته المسلحة، بالتزامن مع قصف «كتيبة الصاعقة» مركز أمن الدولة في داريا، دخل الجيش السوري صبيحة 24/ 8/2012 إلى المدينة، وخاض معركةً لم تدم طويلاً قبل انسحاب هؤلاء، والبدء بالاستثمار الإعلامي لمجزرة داريا التي حصلت في اليوم التالي، وتبادل طرفا النزاع المسؤولية عنها.
الجوهر في القضية هو انسحاب «الجيش الحر» من المعركة إثر مقاومة ضعيفة ضد الجيش السوري على المحاور الثلاثة للمدينة. في ذلك الوقت، برّر المقاتلون تراجعهم بضعف التنسيق بين الفصائل، وخروج الخلافات في ما بينها إلى العلن، فلم يكن من مناص أمام قادة «الكتائب» إلا الإعلان عن «حركة لتصحيح وتصويب مسار القتال في داريا». ونتيجةً لذلك، أعلن عن تشكيل هيئة قضائية لمحاسبة المقصرين والمهملين الذين كانوا سبب «ضعف صمود» داريا. لكن هذه لم تكن أكثر من حركة إعلامية، تلتها الخطوة الأهم، وهي توحيد الكتائب المعارضة في المدينة، تحت مسمى «لواء شهداء داريا» الذي سرعان ما عاد مقاتلوه إلى المدينة، لا سيما بعد الحملة الإعلامية الشرسة التي قيَّدت حركة الجيش السوري في داريا بعد المجزرة.
وذهبت حركة «التصحيح» أبعد من ذلك. ففي أوائل أيلول 2012، اتفق قادة «الكتائب» المقاتلة على تأسيس «المجلس المحلي لمدينة داريا» الذي قُسّمت مسؤولياته إلى قطاعات قانونية وشرعية ومالية وإعلامية وعلاقات عامة وإغاثة. الغاية المعلنة من تأسيس المجلس كانت تسيير شؤون المدينة، بعد «إسقاط النظام»، أما السلوك على الأرض، فكان ينضوي على تنظيم التنسيق ما بين الفصائل المقاتلة، لاسيما على صعيد التمويل. «في البداية، لم يكن من المعروف بالنسبة إلينا ما هي وظيفة المجلس المحلي. إلا أنه لاحقاً بدأت تتضح الصورة. كانت وظيفته أن يرسل إشارات إلى الدول المموّلة عن الفصائل المسلحة الفاعلة في المدينة. وقد بدا ذلك جلياً في إعلان صفحة المجلس على الفيسبوك عن عمليات عسكرية وهمية لبعض الفصائل، لينعكس ذلك إغداقاً للأموال على عناصر هذه الفصائل»، بحسب ما يؤكد ع. ط.، أحد القيمين على نشرة «عنب بلدي» المعارضة.
عتاد ضخم في طوقٍ محكم!
في تشرين الأول 2012، خرجت التشكيلات المسلحة في داريا عن «المعتاد»: زاد عدد قذائف الهاون المطلقة من داخل المدينة بشكلٍ مطرد، وطال بعضها منطقة المهاجرين ومحيط مطار المزة العسكري. استناداً الى ذلك، وأيضاً بسبب دور صلة الوصل الذي تؤمنه داريا بين الغوطتين، اتخذ الجيش السوري قراره بقطع طريق الإمداد الرئيسي، والمنفذ الأساسي لحركة المقاتلين في داريا. وقامت الطائرات الحربية، بدءاً من تشرين الثاني 2012 بقصف المنطقة الشرقية للمدينة، بهدف عزلها نهائياً عن بساتين الرازي في كفرسوسة.
وخلال 2013، بدأ الطوق يزداد إحكاماً على داريا. ولعب التقدم العسكري للجيش السوري في المدن المحيطة بها دوراً أساسياً في ذلك. فلم تعد جبهات السبينة، المعضمية، بساتين كفرسوسة، متاحةً أمام مقاتلي داريا الذين يعيشون اليوم على ما جرى تخزينه من عتادٍ عسكري في عهد الجبهات المفتوحة مع المحيط، إضافة إلى ما صُنّع داخل المدينة، ليكفل استمرار القتال في مسرح محكم الحصار، حتى الوصول إلى مخرجٍ من حالة الاستنزاف الحاصلة.