تحدّيات الحصار
مع استعار العنف خلال المرحلة السابقة، حافظ بعض معامل الأدوية في حمص على عمّاله، عبر تأمين إقامتهم وسكنهم ضمن مبانيه، خشية امتناعهم عن العودة، بسبب صعوبة التنقل بين الأحياء المشتعلة. واعتُبرت تلك محاولة مهمة لاستمرار العمل ليلاً ونهاراً، بهدف تعويض نقص السوق الدوائية، جراء خروج عشرات المعامل عن الخدمة. وفي هذا السياق، فإن عدد الشركات الدوائية التي توقفت عن العمل في سوريا كلها يقدّر بـ11 شركة، من أصل 19، بعدما كان عدد معامل الأدوية في البلاد يبلغ 70 معملاً، تلبّي 93% من حاجات السوق المحلية. الجانب الأسوأ من الحصار الاقتصادي المفروض، وفق ما يراه مدير صحة حمص الدكتور حسان الجندي، هو تأثر عمليات صيانة الأجهزة الطبية، ومثال ذلك المعاناة الحكومية في سبيل إصلاح جهاز أشعة في صدد، جنوب حمص. ويضيف الجندي، في حديث خاص إلى «الأخبار»، صعوبات أُخرى كـ«صعوبة التحويلات المالية واستيراد الأدوية». وعن تصوّره للمرحلة المقبلة، يعلّق الجندي قائلاً: «بقي القطاع الصحي صامداً رغم الخشية من انهيار متوقع، بعد هول ما جرى. حوّلنا العيادات الشاملة إلى مشافٍ. ربما ليست مستشفيات بالصورة المُثلى، غير أنها قدمت خدمات المستشفيات في أصعب الظروف». ويتابع قوله: «كان لدينا جهاز غسل كلى واحد فقط في حمص، وهو لم يتوقف عن العمل يوماً واحداً»، مشيداً بدور الجمعيات الأهلية التي «حملت على عاتقها تغطية الكثير من نفقات الخدمات الطبية، بما فيها بعض العمليات الجراحية، وذلك بمشاركة القطاع الخاص».
تتجاوز خسائر القطاع الصحي في حمص 30 مليار ليرة
أكثر الاختصاصات إقبالاً
وإذ تتجاوز خسائر القطاع الصحي في حمص 30 مليار ليرة، وفق تقديرات مدير صحة حمص، فإن مستشفيات جديدة يجري العمل على إنجازها حالياً كمستشفى حمص الكبير في الوعر، الذي كان قيد الإنشاء وتعثّر إتمامه مع بدء الحرب السورية. ويعوَّل على إنجاز هذا المستشفى بوصفه مشفى استراتيجياً يحوي 600 سرير، ضمن 4 كتل أبنية، وقسماً للأورام. غير أن أبرز العراقيل في وجه إنجازه نفقات تُقدر بالمليارات وكادر طبي مناسب، بعد استنزاف الكوادر الطبية بسبب هجرة الأطباء. أما وضع الأسس لأعمال البناء في الهيئة العامة للمشفى الوطني، فهي جارية على قدم وساق، إذ يُتوقع أن يكون المشفى نوعياً، مع إمكان تقاضي أجور رمزية عن خدماته، ما يسمح بالتطوير ذاتياً. يجيب مدير صحة حمص عن سؤال حول أكثر الاختصاصات التي يُقبل الحمصيون على الاستعانة بها لنيل الخدمات الطبية، بالقول مبتسماً: «التوليد»، ثم يضيف إلى ذلك العمليات الجراحية وخدمات التجميل أيضاً. ومن صعوبات العمل الصحي في حمص، بحسب الجندي، تردد الكوادر العاملين في الالتحاق بالوظائف الحكومية في مناطق الريف، ما أفضى إلى اتخاذ إجراءات تشجيعية، منها استعداد الدولة للتعاقد مع الطبيب بغية تعيينه في منطقته نفسها، وفق طرح تخديم المناطق بخبرات ذاتية من أبنائها، مع جاهزية المديرية وتعاونها بشكل تام لتحقيق ذلك. وحول الأخطاء الطبية، يوضح الجندي أن الأمر يتطلب فتح تحقيق ليحال الملف إلى القضاء، وفق إجراء متّبع في القطاعين العام والخاص. ويضيف قوله: «التشريح يفصل بين حالة الخطأ الطبي والقضاء والقدر. الأطباء ليسوا أنبياء، ولكن لدينا أطباء شرعيون ولجان طبية بموثوقية عالية يقرر أفرادها فصل الحالة. وباب الشكوى مفتوح لدي». وأمام حالة التذمر من أسعار الخدمات في المشافي الخاصة، يبرر الجندي ذلك بعدم حصول أي تغير في الأسعار منذ زمن طويل قياساً بارتفاع مستمر في سعر الدولار، معتبراً أن تقديم الخدمة الصحية يكلف أموالاً طائلة.
«فرق فدائيين»
في ظلّ الصعوبات التي أحاطت بعمل المشافي العامة، برزت الحاجة إلى المشافي الخاصة كتعويض اضطراري عن النقص الحاصل. مستشفيات عديدة اضطّرت إلى أن تكون في لحظة ما مشافي ميدانية وعسكرية وخاصة في آن واحد. تحولت طواقم العمل في المستشفيات الخاصة إلى «فرق فدائيين» يقطعون المسافات الخطرة تحت القصف والقنص لإسعاف المصابين والحصول على أكياس الدم من المشفى العسكري في الوعر. غير أن الدور الأبرز كان من نصيب المشفى الأهلي في حي الزهراء. فرض موقع المشفى نفسه في الحي المحاصر بالعنف والتهديدات، حتى إن البعض لا يرى مبالغة في ربط صمود الحي وقوات الجيش في المعارك التي كانت المنطقة مسرحاً لها ببقاء المستشفى قيد الخدمة وتقديم ما يلزم بأسرع الطرق وأقربها، مع أدوار مُتمّمة لبقية المستشفيات الخاصة في الأحياء الأكثر أمناً، بحكم موقعها. من موقع المستشفى المحاذي لنقاط التماس في مناطق الاشتباكات، كان يجري استقبال 6 آلاف حالة سنوياً ما بين مصاب وشهيد، جراء أحداث العنف فقط. تناقص العدد منذ عام 2014 بما يفوق 2000 حالة سنوياً. أسوأ الأيام في حياة المستشفى كانت خلال فترتي اقتحام حيَّي الورشة والخالدية، حين استوعب المكان عشرات الإصابات خلال ساعات قليلة، ما يفوق قدرته الاستيعابية المقدرة بـ 70 سريراً. 200 من العاملين في المشفى تناوبوا في ما بينهم على إنقاذ المصابين، حتى إن بعض هؤلاء العاملين لم يرَ بيته لأيام عديدة. وعلى اعتبار معظم التفجيرات التي ضربت حي الزهراء خلال الأعوام الماضية كانت ضمن مربع المشفى الأهلي، فقد نال المبنى حصته من الأضرار المادية، إضافة إلى إصابة سطحه بإحدى القذائف، فيما قدّم المستشفى شهيداً من كادره، وهو الطبيب حسن عيد، الذي قضى رمياً بالرصاص، وأنشئت قاعة محاضرات باسمه داخل المستشفى.
«زيادة خبرات... لا أخطاء»
يظهر طبيب الأمراض النسائية، سعيد عيسى، الذي تسلّم إدارة المشفى الأهلي قبل عام، بوصفه نموذجاً مقابلاً لما جرى تعميمه من نماذج رائدة في الإعلام الغربي لأطباء المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة. من غير أي تصنّع أو مبالغة. يرى عيسى أن «لا أحد خيّر بالمطلق، ولكن الطبيب لديه الفرصة كي يكون كذلك». وهو يشرح أبرز أسباب عدم هجرته والكثير من زملائه في المشفى رغم الوضع الأمني السيِّئ الذي ساد حمص، بقوله: «بقاؤنا يؤثر في صمود البنية الاجتماعية في المنطقة. بقاء الطبيب عامل أمان لمرضاه». لم يتجاوب المستشفى مع الاستقطاب الطائفي الحاصل، وفق تعبير الطبيب، فأياً كان المريض «نحن ملزمون بعلاجه من غير أي تمييز». يغصّ الطبيب دامعاً مرات عديدة، إذ يروي حكايات كثيرة من أيام المستشفى الصعبة عن «جنين حمى أمه، إثر تلقّيه شظية في قدمه بعدما ثُقب الرحم، ليتم إنقاذه وأمه من خلال جراحة صعبة وبكادر متواضع»، وعن جنين آخر «اتُّخذ قرار إنقاذه بعد غيبوبة دماغية أصابت الأم، قبل أن تودي بحياتها». تُغافله الدموع أثناء الحديث عن ذكريات الماضي، فيكابر منصرفاً إلى الحديث عن المستقبل، إذ يجري العمل على إعداد وتدريب كوادر المستشفى، وتزويد غرفه بأحدث الأجهزة مع ما تحتاج إليه من صيانة، وتأسيس نظام حوافز رقمي. أما عن رؤيته للواقع الطبي في المدينة، فهو يشكو من فجوة واضحة بين جيلين من الأطباء، يعززها بعض الخوف حيال مهارات الأطباء المتخرجين حديثاً، تحت وطأة هجرة الأساتذة والاختصاصيين وضعف الفترات التدريبية خلال مراحل المعارك. وفي ما يخص رأيه في الشكاوى من الأخطاء الطبية في القطاع الخاص، بما فيه المشفى الأهلي، يعلق قائلاً: «لم تكثر نسبة الأخطاء، بل على العكس، ازدادت الخبرات الجراحية بفعل أيام الاستنفار الطبي والموت اليومي». معطيات كثيرة تأخذنا في مسار بطيء لتطوير الواقع الصحي في حمص بعد الحرب، بما لا يرضي أبناء المدينة والمستهدفين من خدمات هذا القطاع.