اللاذقية | «عم يقولوا صار اسمها صخرة السلام، لكن بذاكرتنا، رح يضل اسمها صخرة الانتحار» يقول أبو صالح، الصياد الستيني، الذي أمضى عمره على الشاطئ الصخري المجاور للصخرة التي تعد واحداً من أقدم معالم الكورنيش الجنوبي في مدينة اللاذقية.
ويشرح عن الحكايات التي يرويها العجائز، حول الأجساد التي كانت تقفز عن قمتها ثم يدفعها الموج بعيداً، ويُعثر على بعضها على شواطئ قبرص، ومعظمها لعاشقين فشلوا في الحب. ويضيف ضاحكاً أن اسم الصخرة فقد هيبته، لأن السنوات الأخيرة لم تشهد انتحار أحد عن قمتها. «ما في أكتر من الموت بهالبلاد، ما عاد حدا محتاج للصخرة» يقول، ويستعيد في ذهنه آخر حالة انتحار حدثت في المكان، منذ حوالى عامين، حينما رمى رجل ثلاثيني بنفسه من أعلى «الكورنيش»، وتهشم جسده حين سقط على الشاطئ الصخري.
قيام فريق من «الأمانة السورية للتنمية» بالتعاون مع الجهات الرسمية بإضاءة الصخرة وتغيير اسمها من «صخرة الانتحار» إلى «صخرة السلام»، قد يكون محاولة للتخلص من الفأل السيئ في المدينة، التي يقاتل معظم أبنائها على الجبهات، وتعيش على أهبة سماع خبر استشهاد ابن أو أخ أو حبيب، وخاصة أنها شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في عدد محاولات الانتحار خلال سنوات الحرب السبع. «بدأنا نشهد انعكاسات الحرب على أبنائنا الذين عاشوا، على مدى سبع سنوات، ظروفاً غير طبيعية داخل منازلهم أو في مجتمعاتهم، وبدأت تبرز ظاهرة محاولة إيذاء الذات (الانتحار) الناجمة عن حالة شديدة من اليأس والإحباط والضيق العاطفي ومحدودية الخيارات، والغريب أننا بتنا نشهد هذه الظاهرة بين اليافعين»، تقول الاختصاصية النفسية روزا البهلول. وتشرح عن الأسباب التي في مقدمها «اختلال النظام العائلي ضمن الأسرة بعد الحرب، وتغير دور الأب من معيل للأسرة إلى عاجز عن إعالة أسرته أو غيابه الطويل أو فقدانه، ما يحمل الأسرة أعباء إضافية، بدءاً من الأم وصولاً إلى الأبناء، وهذا ما نسميه دائرة العنف المستمرة، علاوة على اضطرار البعض الى التخلي عن الدراسة والعمل في ظروف قاسية لا توفر لهم الحد الأدنى من حقوقهم».

بالقنابل اليدوية... ومصاصات المتة

أن يتلقى فتى في الخامسة عشرة من عمره نبأ رسوبه في امتحانات شهادة التعليم الأساسي، فيكون رد فعله تفجير قنبلة يدوية بنفسه، هي حادثة تصلح مؤشراً للدلالة على الدرك السيئ الذي بلغته البلاد خلال سبع سنوات من الحرب. السؤال الأول الذي يفرض نفسه، هو ما سبب وجود قنبلة في متناول صبي صغير؟ والإجابة عنه تائهة في بلد باتت الأسلحة في متناول جميع أبنائه، وفيما حاول البعض نفي انتحار الصبي وترجيح كفة أنه كان يلعب بالقنبلة حين انفجرت، فإن ذلك التبرير كان أشد بلاغة في التعبير عما آلت إليه حال البلاد. السؤال ذاته طرح نفسه حينما أطلق شاب الرصاص على نفسه في غرفة في أحد فنادق المدينة، بسبب أزمة مادية عاناها خلال عمله وكيلاً لإحدى شركات السيارات، وعندما أطلق آخر النار على نفسه أثناء مراسم دفن والدته.

«الحرب أخدت منا كل شي إلا الجنون ضلّ متل ما هو»
في المقابل، اختار أحد أبناء المدينة إنهاء حياته بوسائل غير عنيفة، فاستبدل الأسلحة النارية والقنابل بأدوات معدنية، حيث ابتلع 9 مقصات أظافر ومصاصتي متة، إلا أن محاولة الرجل الأربعيني الانتحار باءت بالفشل، بعد إنقاذه واستخراج الأدوات المعدنية من معدته بعمل جراحي إسعافي، علماً بأنها محاولته الثانية للانتحار بالطريقة ذاتها.

حين لا يعود الحلم ممكناً

«يصعب عليّ تصديق أن أخي الرياضي والمتفوق بدراسته حاول الانتحار» يقول محمد، وهو يشرح عن محاولة انتحار أخيه (19عاماً)، عبر ابتلاع حبوب مهدئة، بعد تلقيه اتصالاً من خاله في ألمانيا يخبره بفشله في تحصيل قبول جامعي له هناك. ويعتبر محمد أخاه واحداً من مئات سلبتهم الحرب القدرة على الحلم، وباتوا مقتنعين بأنهم مهما صارعوا لبناء مستقبلهم وسط ظروف الحرب الصعبة، فهم في النهاية سيطلبون لخدمة الجيش، وستتبخر طموحاتهم المهنية وأحلامهم بتأسيس عائلة. يقول: «بات السفر حلم غالبية الشباب، ولأن قلة منهم فقط قادرة عليه، نراهم يغرقون في الإحباط»، ويضيف: «ربما تكون قصتي قد ساهمت في مضاعفة يأس أخي من الحياة، حين تخلت عني حبيبتي بعد التحاقي بالجيش». ويبتسم قائلاً: «قالت ما بدا تصير زوجة شهيد».
هذا الشاب هو واحد من عشرات ينتهي بهم الأمر في قسم الإسعاف، حيث ينجح المسعفون في إنقاذ البعض، ويكون قد تأخر الوقت بالنسبة إلى البعض الآخر. «الدوافع غالباً هي صدمة عاطفية أو ضيق الحال وفقدان الأمل بالمستقبل، وأحياناً بهدف جذب انتباه الوسط المحيط أو التهرب من مسؤولية موقف معين، علماً بأن أياً من هذه الأسباب لن تدفع الشخص إلى الانتحار ما لم تكن لديه أرضية نفسية غير مستقرة» يقول الدكتور لؤي سعيد، مدير المشفى الوطني في اللاذقية. ويشرح أن أكثر محاولات الانتحار تكون عادة «بتناول جرعة كبيرة من المسكنات، كونها تعطى دون وصفة طبية، أما المهدئات فغالباً ما تكون وسيلة انتحار المرضى النفسيين الخاضعين للعلاج بها»، مشيراً إلى أنه «بعد إنقاذ الشخص بإعطائه الترياقات اللازمة، يتم تنظيم ضبط شرطة، يثبت واقعة تناول أدوية بقصد الانتحار، ويمثل من حاول الانتحار أمام القضاء للتعهد بعدم القيام بذلك مرة ثانية».

الحب في زمن الحرب

حين تلقت رشا (14عاماً) نبأ استشهاد خطيبها المقاتل في صفوف الجيش، تعرضت لانهيار عصبي، وتصور المحيطون بالفتاة، التي تعيش مع أخيها الصغير بعد وفاة أبيها وسفر أمها إلى بلد آخر، أنها ستتجاوز حزنها بعد فترة من الزمن، لكن أحداً لم يتوقع العثور عليها مشنوقة بحبل في غرفتها بعد أيام. انتحار حمل توقيع الحب. أعاد إلى الأذهان تفاصيل انتحار عسكري روسي (19عاماً) كان يعمل بصفة خبير تقني في قاعدة حميميم الجوية، أطلق الرصاص على نفسه، بعدما هجرته حبيبته. وكذلك كان الحب وراء انتحار فتى في العشرين من عمره، ألقى بنفسه من الطبقة الخامسة من المبنى، الذي تسكنه فتاة يحبها، بعدما هددها بالانتحار إن لم تقبل بحبه، لكنها أصرت على رفضه. وكذلك دفع الخذلان في الحب سيدة خمسينية نازحة من إدلب إلى شنق نفسها بعد عقد زوجها قرانه على أخرى. حوادث تبدو نافرة في بلاد تطحنها رحى الحرب وتتناثر فيها أسباب الموت في كل مكان، لكن على حد تعبير أحدهم: «الحرب أخدت منا كل شي إلا الجنون ضلّ متل ما هو».