رغم كلّ ما فيه، إلا أنّ «رسائل البحر» (2010) فيلم رومانسي بامتياز. داود عبد السيّد (1946) من جواهر الرومانسية السحريّة الصامدة في السينما المصريّة. «يحيى» (آسر ياسين – الممثل الجديد آنذاك) طبيب يعاني من تأتأة في النطق، ما يجعل الطب عملاً غير محبّب بالنسبة إليه. ترحل الأم، فيستغلّ فرصة بقائه وحيداً للتحرّر من كل القيود. النوستالجيا تعيده إلى الإسكندرية. هناك، يتلمّس جدران بيت قديم، ويشمّ رائحة حبّ قديم.
يتعرّف إلى معنى جديد في كيانه الوجودي: الحريّة الفردية. إنّه معلّق مثل «يحيى» أيضاً (أحمد زكي) في «أرض الخوف» (2000). الفيلم الآسر الذي طرح فيه عبد السيّد أسئلة وجودية من العيار الثقيل. هكذا، يعيش الشاب المحتفظ ببراءة الأطفال كما يحلو له. يصطاد السمك، ويجرّب الخمر، ويتسمّر تحت المطر للاستماع إلى عزف بيانو ساحر آتٍ من إحدى النوافذ. حبيبته السابقة «كارلا» (سامية أسعد) لديها خطط أخرى بشأن البقاء. تفضّل الهرب من «يحيى» بالوقوع في غواية امرأة أخرى. هنا، يجد نفسه في حاجة إلى «نورا» (بسمة). الفتاة التي اصطادته تحت المطر، لتقضي الليلة معه على أنّها مومس محترفة. هي ترضى بتقييمه، مقابل إخفاء حقيقة أخرى أكثر قسوةً وتطرّفاً. خيارها يتشبّث بالحريّة الفردية كذلك، حتى لو عنى ذلك حياةً موازيةً مليئة بالأكاذيب. بطريقة ما، الجميع يعيش حياةً موازية. هذه قصّة حبّ غريبة، يشتغلها عبد السيّد بعناية الصائغ وبراعة النسّاج.
يقلب المفاهيم رأساً على عقب. العلاقة المشروعة وفق الأديان والأعراف، تبدو قذرةً تليق ببائعات الهوى، فيما تتحوّل النزوة إلى حبّ طاهر. إنّها عادة السينمائي الكبير في أنسنة شخصياته وتفهّم دوافعها ضمن طرح لا تقليدي. الحبّ يصنع الإنسان، ويمكّنه من الوقوف في وجه الماديّة المتوحشة. البلد ضاق ذرعاً بالطبقة الوسطى، وحريّة الفرد في اختيار نمط حياته. الدين شمّاعة أخرى لطرد ما بقي من شاعرية رومانسيّة. الإسكندرية التي كانت مدينة كوزموبوليتية يوماً ما، عبست في وجه هؤلاء الهاربين من كل شيء. لا زمن جميلاً بعد اليوم. لكن الشريط المحكم ينتصر للحب والحياة رغم الهزائم الماديّة. يتّكئ على أداء متمكّن من جميع ممثّليه. يصرخ من أجل الصمود وإنقاذ ما بقي من وجود. ليس مهمّاً أنّ الزجاجة التي قذفها الموج تحتوي رسالةً بلغة غير مفهومة. لقد فعلها البحر وكفى. الرسالة الغيبية تتواءم مع المناخ الحقيقي والسينمائي، والموسيقى الجيّدة لعمل ما يلزم. داود عبد السيّد رومانسي حالم في كلّ أفلامه. سينماه من تجليّات الحبّ الحقيقي الغائب عن مطحنة اليوم. استعادته في الفالنتاين من أفضل ما يمكن القيام به. الورد الحقيقي في مواجهة البلاستيك. الهديّة الأصيلة مقابل «الدباديب» المملّة.



«رسائل البحر»: اليوم 23:30 وغداً 00:30 على «روتانا سينما»