بودابست | ناك في صقيع بودابست حيث درجات الحرارة تنخفض الى ما دون الصفر، تشعر بحرارة كرة القدم في أرجاء العاصمة المجرية وعلى طول امتداد نهر الدانوب الشهير الذي يزيّن المشهد البانورامي للبلاد من زوايا مختلفة. لكن في ذهن المجريين المتيّمين بكرة القدم هناك أمران لا ثالث لهما: الأول هو مشهد بانورامي كروي يضاهي بجماله مدينتهم التاريخية، بينما يتمحور الثاني حول رؤية مستقبلية تعيد رسم المشهد الأول بألوانٍ أكثر عصرية وجمالية.
وهذا المشهد الاول عنوانه فيرينتس بوشكاش. الاسم الذي يعرف العالم عنه الكثير، هو بمثابة الهوس بالنسبة الى ابناء المجر. هو ربما بمثابة قلعة بعلبك بالنسبة الى اللبنانيين، فهو رمز اساسي في البلاد بقيمةٍ تفوق قيمة ساحة الابطال المحاذية لقلعة "سيتاديلا"، ولمبنى البرلمان الرابض على ضفاف الدانوب، والذي يعدّ بنظر البعض تحفة لا مثيل لها في العالم، وحتى بأهمية بازيليك "سان إيشتفان" التي تعدّ إحدى روائع المعالم في البلاد.
كل شيء يرتبط ببوشكاش هناك، إذ يمكن أن تجد صورته في أي مكان وعلى أي شيء. هذا مطعم يقدّم اطباقاً تحمل صورة النجم الرمز، وهذه قاعة رياضية لكرة اليد مزيّنة بلقطات عن اهم محطات مسيرته. وحتى في محلات بيع التذكارات والسوق الحرّة في المطار تجد بوشكاش على الاكواب والقمصان الرياضية وغير الرياضية والدفاتر وعلاّقات المفاتيح والطوابع البريدية والكرات القديمة الشكل وغيرها...
وإذا ما استلطفك مجري سيهديك كتاباً يحكي سيرة حياة بوشكاش. وهنا تعرف قيمة النجم الراحل عند أبناء المجر، الذين يتعبرون ان نجمهم هو اهم من "الملك" البرازيلي بيليه، ويحفظون ارقام سجله التهديفي ومنها حمله الرقم القياسي بـ 511 هدفاً في 533 مباراة ليكون اكثر اللاعبين في التاريخ تسجيلاً على صعيد بطولات الدرجة الاولى. تسأل لماذا العيش على الأمجاد في الوقت الذي سبقت غالبية بلدان "القارة العجوز" المجر على الصعيد الكروي؟
الجواب يأتي انطلاقاً من أن من ينسى تاريخه لن يكون له مستقبل، وهذا هو الهدف من استذكار ذاك النجم الذي سحر العالم يوماً منذ مطلع الاربعينيات وحتى منتصف الستينيات في القرن الماضي. ففي المجر هناك ثلاثة امور اساسية تهمّ المجتمع: التعليم، الخدمات العامة، وكرة القدم.
إذا ما استلطفك مجري سيهديك كتاباً يحكي سيرة حياة بوشكاش

من هنا، يحضر بوشكاش في كل مكان، إذ من يرفع اسمه وينثره أينما حلّ لا يهدف سوى الى تحميل الجيل الحالي مسؤولية كبيرة تتمثل بالثأر لتاريخٍ كروي اندثر بنظر البعض منذ تلك الخسارة الصادمة للمنتخب الحلم في المباراة النهائية لكأس العالم عام 1954 أمام المانيا الغربية 2-3، بعدما تسلى المجريون بخصومهم في الادوار التي سبقت النهائي وبينهم الألمان الذين لقوا خسارةً نكراء بنتيجة 3-8، في دور المجموعات.
في راكالماس الباردة، الواقعة على بعد 61 كلم من العاصمة، تحمل قدماً محفور عليها اسم بوشكاش مفاتيح سائق التاكسي لاشلو آزاري. تسأله عن سبب كل هذا الارتباط في البلاد بنجمٍ لم يحقق لها أي لقبٍ لا بل انه رفض العودة اليها عقب ما يعرف بالغزو السوفياتي عام 1956، ثم اختار بعدها بخمسة اعوام التحوّل من تمثيل المجر على الساحة الدولية (سجّل 84 هدفاً في 85 مباراة دولية) الى الدفاع عن ألوان إسبانيا (لعب لها 4 مباريات فقط من دون ان يسجل اي هدف).
الرجل الخمسيني لا يكتم غضبه، لكن ليس ردّاً على السؤال الاستفزازي بل امتعاضاً من اجيالٍ لم تحافظ على الإرث على حدّ قوله. ويضيف: "نحن نستحضر شبح بوشكاش علّ هؤلاء الشبان الذين يرتدون قميص المنتخب الوطني يخافون منه ويعملون لإرضاء الوصية التي تركها لنا". ويهزّ برأسه متسائلاً: "أيعلم هؤلاء اهمية ذاك القميص الذي يرتدونه؟ انه القميص نفسه الذي حمله بوشكاش وساندور كوشيتش وزولتان شيبور، لذا وحده يجب ان يعطيهم قوة ساحرة لوضع المجر بين كبار اوروبا مرة جديدة، اذ لا تفسير لعدم وقوفنا ندّاً لألمانيا واسبانيا وايطاليا مثلاً".
إذاً هو شبح بوشكاش الذي يطوف فوق المجر ويسكن بودابست وجوارها. هو نفسه الذي يرسم المشهد الثاني الذي يرتبط بالرؤية المستقبلية. القيّمون على اللعبة والشعب المجري يستخدمون الاسم الكبير لدفع أجيالهم نحو الافضل، وهو الامر الذي يبدو واضحاً من خلال رعاية رئيس الوزراء فيكتور أوربان للأكاديمية التي تحمل اسم "أسطورة" ريال مدريد الاسباني سابقاً.
أوربان نفسه يرى ان كرة القدم هي ثاني أهم شيء في البلاد بعد السياسة. ولهذا السبب شرع في إقرار مشروع بناء ملعبٍ جديد سيكلّف الملايين وينتهي العمل به بعد عامين. وهذا المشروع هو ضمن سلسلة اعمال تهدف الى بناء وترميم ما مجموعه 33 ملعباً دولياً في ارجاء المجر كافة. أما الهدف فهو احياء اللعبة في البلاد، اذ لا يخفي الدكتور هولو مورتون، وهو احد الكوادر الادارية الفاعلة في الاتحاد المحلي، أن تواضع الأداء في مباريات الدوري ابعدت الجمهور عنه "لذا تكمن فكرة أوربان في خلق ملاعب جذابة يمكنها ان تشجّع الناس للقدوم اليها مجدداً". ويتابع: "وحدها مباريات المنتخب الوطني يمكنها ان تكسر البرودة، اذ يتحدى المجريون درجات الحرارة المتدنية والبرد القارس ويتقاطرون لتشجيع منتخبهم".
وفي هذا القول أيضاً دليلٌ آخر على ان لا شيء يعلو فوق المهمة الوطنية الأزلية المتمثلة بالنسبة الى المجريين باستعادة المجد الذين يعتبرون أنه سُرق منهم يوماً، فينقلون هذه المهمة من جيلٍ الى آخر، ويستبشرون اليوم خيراً بعد تأهل المنتخب المثلث الالوان الى كأس اوروبا للمرة الاولى منذ 43 عاماً (تحديداً من عام 1972)، وللمرة الاولى الى بطولة كبرى منذ تأهله الى نهائيات كأس العالم في المكسيك عام 1986.
لكن الأكيد انه ليس لديهم اليوم من قال عنه شيبور بأنه اذا ركل الكرة مرة واحدة يسجّل هدفين.