في أحد مكاتب قصر الكرملين في موسكو، وقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مقابل رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم، السويسري جياني إنفانتينو، وراحا يتبادلان تسديد الكرة الرسمية لمونديال روسيا. لم يتوان بوتين حتى عن لعب الكرة برأسه. كانت هذه اللقطات ضمن شريط فيديو بثّه «الفيفا» قبل 100 يوم من انطلاق الحدث العالمي وظهر فيه أساطير من بلدان المنتخبات المشاركة في 100 لقطة. لقطة بوتين بالتحديد كانت معبّرة وتحمل دلالات، فقد اختار رجل روسيا الأول أحد مكاتب الكرملين ليسدد كرته، وفي هذا تعبير يتخطّى الترويج للبطولة الذي أرادته "الفيفا" إلى التأكيد على الأهمية القصوى وما يمثّله المونديال لروسيا ولبوتين شخصياً.
اختارت روسيا قصر الكرملين نفسه وما يمثّله لإجراء قرعة كأس العالم - أرشيف
في الواقع لم تكن هذه الدلالة الأولى. في أواخر عام 2017 اختارت روسيا قصر الكرملين نفسه وما يمثّله لإجراء قرعة كأس العالم. كان بوتين حاضراً شخصياً. قال بوضوح على المنصة أمام الحضور: "بلادنا تنتظر بفارغ الصبر البطولة وتعتزم تنظيمها على أعلى مستوى. سنفعل كل شيء لجعلها حفلاً رياضياً كبيراً". بعد القرعة مباشرة وفي بهو القاعة تحلّق أساطير الكرة حول بوتين. كانت اللقطة التي يحتضن فيها الأسطورة البرازيلي بيليه الجالس على كرسي متحرك والأسطورة الأرجنتيني دييغو أرماندو مارادونا ووراءهم "الظاهرة" البرازيلي رونالدو والنجم الألماني السابق لوثر ماتيوس معبّرة أيضاً. جابت العالم. ظهر فيها بوتين مبتسماً و"على طبيعته" كما لا يفعل خلال اجتماعاته السياسية بقادة العالم. الصورة تحكي: المونديال يشغل بوتين بموازاة انشغالاته السياسية التي لا تُعدّ ولا تحصى.
بوتين لم يخف قبل فترة بأن هذه الحملة مرتبطة باقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الروسية المقررة في آذار المقبل


في الحقيقة، ومنذ دوره الفاعل والمؤثر في فوز روسيا بشرف تنظيم المونديال، تحوّل الحدث إلى واحد من بين أولويات وانشغالات بوتين وما أدراك ما انشغالات الرجل خصوصاً بعد الأزمة السورية والكباش مع الولايات المتحدة والغرب. لكن كل ذلك لم يؤثر على اهتمام بوتين المونديالي وإشرافه شخصياً على التفاصيل. خرج بنفسه مراراً ليطمئن "الفيفا" بأن الملاعب ستكون جاهزة في موعدها للبطولة ودعا إلى عدم القلق من بعض التأخيرات، وهكذا كان.
في موازاة لقاءاته بقادة العالم، لم يتوان مثلاً عن دعوة مارادونا إلى زيارة روسيا. كان الأسطورة حاضراً في نهائي كأس القارات الصيف الماضي. وصف الرئيس الروسي بأنه "ظاهرة". كانت الزيارة مونديالية الطابع بامتياز، كما لقاءات بوتين مع إنفانتينو العديدة في موسكو للتباحث حول البطولة.
بالتأكيد، يدرك بوتين جيداً أن كل الأنظار مصوّبة عليه وعلى المونديال. الكارهون لاستضافة روسيا كثر. لا يمكن على الإطلاق إبعاد العامل السياسي عن المسألة. هذا واضح وتحكي عنه الوقائع. كان ذلك مذ فُتح ملف الفساد في "الفيفا" وطال رئيسه السويسري جوزف بلاتر المقرّب من بوتين. على الأثر أثير موضوع ملف استضافة روسيا. الإنكليز كانوا غاضبين لخسارتهم السباق أمام الروس، وكذا الأميركيون لخسارتهم ملف استضافة مونديال 2022. هكذا، تصدّر هذا الملف عناوين الصحف الإنكليزية، أما في الولايات المتحدة فكان الـ "أف بي أي" يحقق مع أشخاص في "الفيفا" وفي عالم الكرة ويقاضي بعضهم. غير أن المونديال الروسي لم يهتز على وقع ضربة "الفيفا". بقي صامداً. لم يشب الملف الروسي أي شائبة. واصل الروس استعداداتهم للحدث. بالمناسبة، وبعد فترة، فشل المنتخب الأميركي بعد مونديالات عدة في التأهل إلى مونديال روسيا. سبب إضافي لكي لا يروق كأس العالم الروسي للأميركيين المغتاظين.

تصميم عماد خالدي

لم تنجح الحملة على المونديال. انتقلت إلى فتح ملف تنشّط الرياضيين الروس واتهام الدولة الروسية بالإشراف عليه. أُوقف كثيرون منهم وحرموا من أولمبياد ريو دي جانيرو 2016، وأوقفت اللجنة الأولمبية الدولية نظيرتها الروسية. استمرّ هذا المسلسل حتى ما بعد الأولمبياد الشتوي الأخير في بيونغ تشانغ حيث استعادت روسيا حقوقها الأولمبية.
بوتين لم يخف قبل فترة بأن هذه الحملة "مرتبطة باقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الروسية المقررة في آذار المقبل"، مضيفاً: "ماذا بإمكاننا القول، أنا أعلم أن الأمور كذلك"، معتبراً أن المدير السابق لمختبر موسكو للكشف عن المنشطات، غريغوري رودتشنكوف، المقيم في الولايات المتحدة "تحت سيطرة وحماية مكتب التحقيقات الفدرالي. بالنسبة لنا هذا يعني أنه يعمل تحت سيطرة أجهزة الاستخبارات في الولايات المتحدة".
في الولايات المتحدة كان الـ «أف بي أي» يحقق مع أشخاص في «الفيفا» وفي عالم الكرة ويقاضي بعضهم غير أن المونديال الروسي لم يهتز


في موازاة ذلك، يدرك بوتين جيداً أن الموضوع الأمني مهم جداً في المونديال وهو يوليه أهمية كبيرة. قبل أشهر، نشر موقع "سايت إنتيليجنس غروب"، وهو بالمناسبة موقع أميركي، صوراً مركّبة لأفراد في داعش يتوعّدون المونديال ونجومه كالأرجنتيني ليونيل ميسي والبرازيلي نيمار والبرتغالي كريستيانو رونالدو. لم تؤثّر هذه الملصقات بدورها على استعدادت الروس لمونديالهم. مضوا على قدم وساق. لكن بوتين يعلم جيداً أهمية أمن المونديال. قبل أيام كان واضحاً خلال اجتماعه السنوي بمسؤولي الشرطة الروسية بالقول: "علينا أن نعمل ليكون التنظيم على أعلى مستوى وقبل كل شيء ضمان أمن الرياضيين والمشجعين على حد سواء وعلى أعلى مستوى"، مضيفاً: "طريقة إقامة هذا العمل المهم وصورة روسيا بأكملها مرتبطتان مباشرة بعملكم الدقيق والفعّال". بتعبير آخر: المونديال خط أحمر بالنسبة لروسيا.
قبل أيام، كان بوتين يسدّد كرة المونديال مع إنفانتينو في أحد مكاتب الكرملين. في 14 حزيران المقبل سيركل بوتين الكرة مجدداً، لكن هذه المرة على أرض الملعب إيذاناً بانطلاق أهم حدث رياضي عرفته البشرية على الأراضي الروسية. اللقاء في موسكو إذاً.

الضربة القاضية

فلاديمير بوتين رياضي بامتياز. أكثر ما يشتهر به الضابط السابق في جهاز الأمن "كي جي بي" خلال الحقبة السوفياتية أنه لاعب جودو سابق. لكنه ليس أي لاعب، إذ إنه يحمل الحزام الأسود. رغم أنه رئيس روسيا، فإن بوتين لا يتوانى بين الفينة والأخرى أن يطلّ على شعبه وهو يلعب الجودو. إجادته لهذه اللعبة رسّخت في ذهنية الروس شخصيته القوية.
بدأ بوتين اهتمامه بالفنون القاتلية في سن 11 عاماً عبر لعبتي السامبو (التي يتدرّب عليها أفراد قوات الأمن الروسية) والجودو، وقد حقق أكثر من مرة لقب بطولة لينينغراد (سان بطرسبورغ حالياً التي ولد فيها) في الرياضة الأولى.
وفي عام 1973 أصبح أستاذاً في السامبو وانتقل لاحقاً إلى الجودو ليتألق في هذه اللعبة ويصل إلى الحزام الأسود مسقطاً منافسيه بالضربة القاضية. عشْق بوتين للجودو دفعه لأن يُصدر كتاباً بعنوان: "دراسة الجودو مع فلاديمير بوتين".
لكن الجودو ليست الرياضة الوحيدة التي يجيدها بوتين، إذ إنه يمارس أيضاً لعبة الهوكي على الجليد وقد شارك في إحدى المباريات قبل فترة.
أما كروياً، فإن بوتين يشجع فريق مدينته زينيت سان بطرسبورغ.