ليس أصعب من أن تتحوّل الأحلام إلى كوابيس، والأصعب، إذا كان الحلم أفريقياً مجبولاً بفقر أطفال تلك الأرض. هنا، تكتمل فصول المشهد تراجيدية: ضحاياه هم أطفال مشوا خلف حلم ينتشلهم من فقرهم في أندية أوروبا، وأبطاله هم وكلاء باعوا ضمائرهم
حسن زين الدين
أضحى اللاعبون الأفارقة بمثابة الذهب الأسود في الكرة الأوروبية. هكذا، بات من المستحيل أن تجد فريقاً أوروبياً يخلو من لاعب أفريقي. أصبحوا بالآلاف في القارة الباردة. العاجي ديدييه دروغبا، الكاميروني صامويل ايتو، الغاني مايكل ايسيان وغيرهم من اللاعبين الأفارقة، باتوا من النجوم العالميين. نجوم من الفئة الأولى ممن يتقاضون ملايين الدولارات سنوياً.
هؤلاء اللاعبون هم المثال الأعلى لأبناء بلادهم من الأطفال الفقراء الذين لا يجدون قوت يومهم. الذين لا يملكون شيئاً ينتشلهم من بقعة الحرمان الملسوعة بشمس حارقة، سوى الحلم. الحلم بأوروبا. والحلم عندهم مرادفه كلمة اسمها: كرة القدم.
موهبة فطرية لهؤلاء الذين تُنهب الخيرات من أراضيهم وهم جائعون. لكن تحقيق هذا الحلم دونه تضحيات ورحلة قاسية مليئة بالدموع وفقدان الأمان والأحزان، والمحظوظ منهم هو من يسلك درب دروغبا وايتو وايسيان.

فتيان يواجهون مصيرهم

لا شك في أن ملاعب أنغولا، هذه الأيام، مكتظة بمندوبي الأندية الأوروبية الذين يراقبون اللاعبين المشاركين في بطولة أمم أفريقيا للتعاقد مع أبرزهم. هؤلاء الشباب محظوظون، ذلك أن ثمة مئات من أبناء جلدتهم يقعون سنوياً فريسة لوكلاء يقضون على حلمهم. ستيفان هو أحد هؤلاء.
ستيفان (16 عاماً) فتى كاميروني حلم بأوروبا، بأنديتها الكبيرة، بالنجومية والشهرة، لكن بمجرد أن وطئت قدماه الحارّتان أرض أوروبا، لم تحتملا برودتها، تجمّدتا، وانقلب حلمه كابوساً.
قصة ستيفان (16 عاماً) التي يسردها موقع «playthegame.org» المختص بالأطفال المشردين، بدأت في بلاده، حيث برز في فريق قريته بتسجيله 12 هدفاً في إحدى البطولات المحلية، فلفت أنظار أحد الوكلاء. جملة واحدة نطقها هذا الأخير كانت كفيلة بأن تقلب حياة الفتى الفقير رأساً على عقب: « هل ترغب في أن تذهب إلى أوروبا وتصبح لاعب كرة قدم محترف؟».
جملة دفعت بوالدة الفتى إلى أن تستدين ثمن أوراق السفر والمعاملات التي طلبها الوكيل. بعدها بأربعة أسابيع، كان الفتى وحيداً في شوارع باريس بلا مأوى ولا مال.
فصول قصة برنارد (17 عاماً) الفتى الغاني، التي تنقلها صحيفة «ذي أوبزرفر» البريطانية، تبدو مؤثرة بدورها، إذ إن «والدتي باعت منزلنا واضطر شقيقاي إلى أن يعملا 12 ساعة يومياً لتسديد ثمن تكاليف السفر»، كما يقول الفتى الذي أفهم أنه سيتجه للعب مع فريق متز الفرنسي، «وفي متز قالوا لي إنهم لا يعلمون من أنا، واصطحبوني إلى مركز الشرطة»، يتابع برنارد الذي يقيم الآن في أحد الأحياء المهمّشة في ضواحي باريس.
في أحد ملاعب الهواة القابع في إحدى ضواحي عاصمة العطور الفرنسية، يتجمّع كل يوم صباحاً عشرات من الفتيان الأفارقة الذين قدموا من مالي والسنغال والكاميرون وبنين وغينيا وساحل العاج وغيرها، ممن فقدوا حلمهم كابني قارّتهم ستيفان وبرنارد، ينتظرون في ظل طقس بارد أن يمنّ عليهم أحد الوسطاء بفريق، أي فريق، إن كان في فرنسا أو البلاد المجاورة، كي يشعروا بالدفء في أروقته.
كل واحد من هؤلاء مرّ بتجربتي برنارد وستيفان المريرتين، حتى إن آخرين منهم ألقت الشرطة القبض عليهم، كما حصل مع برنارد، لعدم قانونية وجودهم ورحّلوا إلى بلادهم.
التقارير تتحدث عن أن مئات من الأطفال الأفارقة يتوجّهون سنوياً إلى ملاعب أوروبا هرباً من الفقر في بلادهم، حيث يقدّر وجود حوالى 7 آلاف في فرنسا وحدها أكثرهم مشردون في الطرقات، و90 % من هؤلاء مقيمون بطرق غير شرعية.

أين هو «الفيفا»؟

في العناوين العريضة لمسألة الاتجار باللاعبين الأفارقة، لا يبدو الاتحاد الدولي لكرة القدم « الفيفا» بعيداً عما يحدث، لكنّ التنفيذ على الأرض لا يتعدى كلمات يطلقها رئيسه السويسري سيب بلاتر، ومنها على سبيل المثال في الاجتماع الـ31 للجمعية العمومية للاتحاد الأفريقي (الكاف) التي عقدت في لاغوس، حيث وعد الرئيس بمضيّ اتحاده قدماً للتصدي لهذه الآفة، لكنه بحنكته أبقى الكرة في ملعب الأفارقة حين قال «إن حل هذه المسألة يبدأ من خلال الاتحادات المحلية التي يجب أن تعمل على تسجيل هؤلاء اللاعبين».
هذه الآفة دفعت أيضاً ممثلي 27 بطولة أوروبية محلية إلى التداعي لإقرار معاهدة لتحسين مراقبة عملية التعاقد مع اللاعبين الأفارقة الفتيان.
وقد كان وزير الرياضة السابق في إنكلترا ريشارد كابون، وهو سفير ملف بلاده لتنظيم مونديال 2018، أحد الذين قادوا هذه الحملة. ويقول كابون لصحيفة «إندبندنت» البريطانية «نريد أن نتأكد من أن هذه التجارة قد انتهت. لا نريد لكرة القدم أن تتأثر سلباً بهذا النوع من الأنشطة».

جمعيات تثقيفية

لكن ما سبق يبقى ضمن إطار حماية الأندية لمصالحها في الدرجة الأولى، والفقاقيع الكلامية المعتادة في مسألة تحتاج إلى عمل جدّي و«على الأرض».
وهذا بالفعل ما أدى في مكان آخر، بالتحديد عند أصحاب الشأن أنفسهم، إلى ازدياد نشاط جمعيات تثقيفية رياضية، في السنوات الأخيرة. هذه الجمعيات تعنى بهؤلاء الفتيان وتساعدهم في إيجاد أندية، ولو متواضعة، من أجل أن تكون إقاماتهم قانونية وألا تلاحقهم السلطات في البلدان الأوروبية.
جمعية «التثقيف الكروي التضامنية» هي إحدى هذه الجمعيات، يرأسها الكاميروني جان ـــــ كلود مفومان، وقد تأسست عام 2000، وهي تطرح برنامجا سمّته «الحفاظ على الحلم»، ويقول مفومان « ثمّة الآلاف من اللاعبين الأفارقة الذي يقدمون سنوياً إلى فرنسا تحديداً (على اعتبار أنها خزان اللاعبين الأفارقة إلى أوروبا)، ويقعون ضحية لوكلاء يبحثون عنهم في أفريقيا كمن يبحث عن الكاكاو».
ويشرح مفومان «يتوجه الوكلاء إلى أفريقيا كما لو أنهم في نزهة صيد، وهناك يقنعون أهالي اللاعبين بدفع كل أموالهم لنقل أبنائهم إلى أوروبا من أجل اللعب والشهرة».
ويضيف «وبما أن الفيفا يحظر انتقال لاعبين دون 18 عاماً إلى الأندية المحترفة، يلجأ الوكلاء إلى تغيير أسماء هؤلاء الفتيان وأعمارهم في سجلاتهم».
وتابع «في أوروبا، بعض اللاعبين ينجحون في الاختبارات مع أندية، وكثيرون يواجهون مصيرهم بمفردهم، حيث يصبح وجودهم غير قانوني، وفي الوقت عينه يخافون العودة إلى بلادهم تحسّباً لردة فعل
أهاليهم».
ويلفت مفومان إلى أن «كثير من هؤلاء اللاعبين غير الشرعيين يودَعون في مخيمات في جنوب إيطاليا والبرتغال وإسبانيا ليمكثوا فيها، ريثما يتفق الوكلاء مع أندية ينتقلون إليها».
جمعيات تثقيفية أخرى تأسست في البلاد الأفريقية لتوعية الفتيان الحالمين باللعب في أوروبا من المخاطر التي قد يواجهونها
هناك.
إحدى هذه الجمعيات تقع في مدينة كريبي في جنوب غرب الكاميرون، غير أنه بحسب المسؤولين عن مثل هذه الجمعيات فإن هذه المشكلة لن تحلّ إلا إذا أقدمت السلطات في البلاد الأفريقية على التصدّي للوكلاء.

يقدّر في فرنسا وحدها وجود أكثر من 7 آلاف فتى أفريقي دون أوراق قانونية

أدت ظاهرة الاتجار باللاعبين إلى نشوء جمعيات تثقيفية رياضية

في تطرّقه إلى جانب من هذا الموضوع، يشير رافايل بولي، وهو باحث جغرافي في المركز الدولي للدراسات الرياضية في جامعة نيوشاتيل السويسرية، ومختص في الهجرة الدولية للاعبين، إلى أن اللاعبين الأفارقة هم « ضحية لبرنامج منظّم» على حدّ تعبيره، شارحاً «يمثّل اللاعب الأفريقي مادة أوّليّة يبحث عنها الوسطاء من أجل تصنيعها وإعادة بيعها بثمن أعلى».
ويضيف «أما الخطوات للوصول إلى ذلك، فتبدأ باستقدام اللاعبين إلى دوريات متواضعة في بلدان كرومانيا ومالطا وألبانيا، ثم تدرجهم إلى دوريات من الصف الثاني كسويسرا وبلجيكا، وصولاً إلى الدوريات الكبرى».
بضعة أشهر تفصلنا عن بطولة كأس العالم في جنوب أفريقيا. سيكون العالم برمته ضيفاً على القارة السمراء.
هناك ستقرع الطبول، وتنطلق الأهازيج. ستنتصب حلقات الرقص وسيتعرّى بعض الجمهور من ثيابه، فشمس أفريقيا حارقة، وستفتح عبوات الشمبانيا احتفاءً بالأجواء الرائعة والخيالية... والمئات من أبناء هذه القارة يرتعشون برداً في أوروبا، ويذرفون الدموع في رحلة الاحتراف!


حكاية نجم

اللاعب الكاميروني صامويل ايتو مرّ بتجربة قاسية بدوره قبل أن يصبح نجماً عالمياً في أكبر أندية أوروبا، إذ يقول لاعب انتر ميلانو الإيطالي حالياً وبرشلونة الإسباني سابقاً، إنه قدم إلى فرنسا حين كان في الـ14 من عمره، واستمر فترة من دون أي أوراق قانونية ومن دون أموال، ثم لعب مدة في مدينة أفينيون قبل أن ينتقل إلى باريس، حيث كانت تقيم شقيقته. «وبما أن وضعي لم يكن قانونياً، لم يكن في استطاعتي الذهاب إلى المدرسة، أو إلى أي ناد لكرة القدم»، يقول ايتو، ويضيف «بعد أشهر قررت العودة إلى الكاميرون، لكنّ تجربة تدريبية في نادي لوهافر، وفّرت لي أوراقاً قانونية وعرضاً للاحتراف، ووجدت نفسي في ريال مدريد (الإسباني)». لكن فور وصول الفتى حينها إلى مدريد، نسي المعنيون في النادي الملكي اصطحابه من المطار. في تلك اللحظة، أيقن ايتو أن الرحلة ستكون طويلة وشاقة نحو النجومية.