أظهر الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، في الاحتفال التأبيني للرئيس الايراني ورفاقه قبل أيام، حرصاً على الدقة في التعبير بأن الهدف الثاني للمعركة التي يخوضها حزب الله، بعد إسناد المقاومة في غزة ودعم أهلها، هو منع أي عملية استباقية للعدو ضد لبنان. وحسم بأن أي موقف اتخذه الحزب أو سيتخذه من كل الطروحات، هو ما يحقق هدف إسناد غزة بالدرجة الأولى، وبأن أي محاولة للعدو، مباشرة أو عبر وسطاء، للرهان على إنتاج تعارض بين الهدفين لفكّ ارتباط الجبهتين محكوم عليها بالفشل.عملياً، لا تعارض بين الهدفين لاعتبارات موضوعية واستراتيجية. فتحقيق العدو، فرضاً، انتصاراً جدياً في الحرب على غزة، سيغذّي أوهامه ورهاناته تجاه لبنان. كما أن إدراج المؤسستين العسكرية والسياسية حزب الله على رأس التهديدات الاستراتيجية للأمن القومي الإسرائيلي، يفرض حضور الحزب في حسابات مؤسسة القرار لدى دراسة خياراتها العدوانية.

دمار في عيتا الشعب (الأخبار)

مع ذلك، فإن وضع إحباط عدوان إسرائيلي استباقي على لبنان هدفاً ثانياً يفرض عدداً من الأسئلة حول مؤشرات هذا السيناريو، وهل نجحت المقاومة في إحباطه، وكيف؟
قد يكون تشوّش الرؤية والتقدير لدى البعض مفهوماً في الساعات التي تلت «طوفان الأقصى» في السابع من تشرين الأول. ولكن، بعدما اتّضح حجم التحولات التي استجدّت على نظرة العدو للمخاطر والخيارات الواجب اتباعها، وبعد المواقف الإسرائيلية الصريحة في هذا الاتجاه، لم يعد مبرراً عدم إدراك حجم المخاطر المحدقة بلبنان وعدم فهم صوابية قرار المقاومة ودقته في المبادرة الى إسناد غزة، وانعكاس ذلك على «الأمن القومي» للبنان ومستقبله.
من أبرز المؤشرات في هذا المجال، ما كشفه العدو نفسه عن طرح وُضع على طاولة القرار الإسرائيلي في الأيام الأولى للحرب بشن حرب مفاجئة ضد لبنان، قبل أن يؤدي انقسام القيادة السياسية والأمنية والتباين مع واشنطن، بفعل الخشية من التدحرج الى حرب كبرى، إلى طيّ النقاش وتركيز الحرب على غزة.
يُضاف الى ذلك، أن التحولات التي استجدّت في اسرائيل لم تقتصر على النظرة إلى التهديد الذي تشكله حماس، بل شملت حزب الله أيضاً. وبحسب تعبير رئيس أركان الجيش السابق افيف كوخافي، «كل ما ناقشته عن حماس ينطبق على حزب الله». ويعود ذلك الى أن الخطر الذي يشكله الحزب على اسرائيل مرتبط بقدراته الهائلة، ولكون القيادة الاسرائيلية، بعد «طوفان الأقصى»، لم تعد تثق بتقديراتها ازاء نيات أعدائها. وفي هذا السياق، يجاهر قادة العدو بضرورة معالجة الخطر الكامن في تمركز حزب الله جنوبيّ الليطاني، وفي قدراته النوعية والاستراتيجية.
أضف إلى ذلك أن أي عملية عدوانية استباقية تستند الى معلومات وتقديرات بأنها قد تؤدي الى تدمير كل أو أغلب قدرات حزب الله، لن يعارضها أحد في تل ابيب ولا في واشنطن، بل يُعتبر هذا السيناريو الأمثل للطرفين كونه يؤدي الى تغيير جذري في معادلات القوة على مستوى المنطقة. لذلك، فإن المخاوف والتردد والانقسام في تل ابيب ومع واشنطن، تؤكد على ادراك العدو بأن الضربة الاستباقية لن تحقق مثل هذه النتيجة، بل، وفق تقديراتهم في أحسن السيناريوات، قد تجتث نسبة كبيرة من قدرات حزب الله وقتل عدد كبير من قياداته وكوادره، لكن من دون أن تسلبه القدرة على الرد وإدارة حرب قد تتدحرج الى حرب إقليمية كبرى، مع ما لذلك من تداعيات سياسية واستراتيجية في لبنان والمنطقة.
كلما ارتاحت إسرائيل في جبهتها الداخلية والفلسطينية ستكون أكثر استعداداً وقدرة على توسيع اعتداءاتها تجاه الخارج


في ظل هذه المخاطر والسيناريوات، أتى فتح حزب الله جبهة لبنان التي حققت مروحة من النتائج، أصبحت مفاعيلها في اسناد غزة أكثر حضوراً ووضوحاً على ألسنة قادة العدو ومحلليه ومعاهد أبحاثه. أما في ما يتعلق بدور الجبهة في مواجهة خطر شن عملية استباقية، فيمكن تلمس معالمه في عدة عناوين. فمبادرة حزب الله الى اسناد غزة، تستوجب بالضرورة دخوله في جهوزية مرتفعة، وهو عامل محوري في مواجهة أي مفاجأة عدوانية واسعة يمكن للعدو أن يبادر إليها. كما أن المسار العملياتي للمقاومة خلال الأشهر الثمانية، أدى الى احباط رهانات وتقديرات كانت تراود قيادة العدو بأن سيطرته الجوية وتطوره التكنولوجي يمكن أن يحولا دون نجاح حزب الله في المبادرة والرد، فضلاً عن أنه لم يستخدم حتى الآن سوى جزء يسير من قدراته الصاروخية والمسيّرات وخياراته العملياتية.
وإلى ذلك، فإن دخول حزب الله معركة غزة، رغم مخاطر ردّ العدو بخيارات عدوانية واسعة تؤدي الى التدحرج، بدَّد أي رهان على أن المتغيرات الإسرائيلية والأميركية والداخلية اللبنانية يمكن أن تساهم في ردع حزب الله عن خيارات عملياتية تنطوي على امكانية نشوب حرب واسعة.
تبقى معادلة ينبغي أن تبقى راسخة في الوعي، وهي أنه كلما ارتاحت اسرائيل في جبهتها الداخلية والفلسطينية، كانت أكثر استعداداً وقدرة على توسيع اعتداءاتها تجاه الخارج. يعني ذلك، أنه الى جانب الدوافع الدينية والأخلاقية والإنسانية التي تفرض نصرة فلسطين، فإن المصالح القومية والاستراتيجية للدول العربية، وفي مقدمها لبنان، تفرض بذل الجهود والتضحيات لمنع العدو من الانتصار على المقاومة في غزة. وفي حال انتصار المقاومة، فإن ذلك يُعبِّد الطريق أمام تناميها وصولاً الى تحرير فلسطين، ويُعمِّق القيود على صانع القرار في تل ابيب بما يحول دون ذهابه بعيداً في خياراته العدوانية تجاه الخارج.