لم يكن يوم أمس عادياً في تاريخ اللبنانيين عموماً، خصوصاً المقيمين في المتن الشمالي. منذ السادسة صباحاً، بدأت طلائع التلاميذ نزولاً من بسكنتا وعينطورة والمروج، وصعوداً من الجديدة والزلقا وإنطلياس، بالتحرك نحو مدارس الشانفيل في ديك المحدي والقديس يوسف في قرنة شهوان و«برمانا هاي سكول»، احتجاجاً على الارتفاع المتواصل للأقساط في المدارس الخاصة التي تستعد لإبلاغ الأهالي بعودة الأقساط إلى ما كانت عليه بالدولار قبل الأزمة. وهم في ذلك، كانوا يظنّون بأن التلاميذ وأهاليهم قطيع من الغنم لا حول له ولا قوة، قبل أن يُظهر هؤلاء أمس أنهم لن يسكتوا عن هذا الغدر المتمادي، خصوصاً مع تراجع المستوى التعليمي في غالبية المدارس، إما بسبب هجرة الأساتذة أو بسبب بخل الإدارات في تقديم الحوافز لهم، ما يضطر الأهل إلى الاستعانة بأساتذة خصوصيين لا تقل كلفتهم عن كلفة الأقساط.خلف التلاميذ، مشى الأساتذة الذين قرروا أيضاً المطالبة بحقوقهم كما يجب، بدل الثرثرة بصوت منخفض وقول الشيء في السر وعكسه في العلن. أما الأحزاب التي وعدت في برامجها الانتخابية بحماية مصالح الناخبين، فقد آثرت أيضاً مغادرة الخوف المزمن من الأمانة العامة للمدارس الكاثوليكية والانتقال من صف الإدارات المدرسية (التي ترشوهم بتسجيل تلميذ أو عدم مطالبة آخر بالقسط) إلى صف الأهالي. وشوهد النائب سامي الجميل، ومن خلفه النواب رازي الحاج وإبراهيم كنعان وملحم رياشي، يهتفون بصوت واحد: «يا بطركنا وينك وينك... أكلتنا المدارس قدام عينك». كما شوهد النائب الكتائبي الياس حنكش يتسلق عامود كهرباء، وفي مقابله على الجهة الأخرى، نائب رئيس مجلس النواب النائب الياس أبو صعب، وهما يرفعان لافتة تهدّد بالمقاطعة الشعبية في حال مضت المدارس في رفع الأقساط. وأُعلن عن إنشاء لجان الأهل بالتنسيق مع النواب آلية لإيجاد خيارات بديلة تضمن جودة التعليم بأسعار مقبولة، فيما أعلنت الأحزاب استحداث هيئات خاصة بالعمل المدرسي تتجاوز مهمتها توزيع الورود في المناسبات إلى وضع استراتيجيات لتحصيل حقوق التلاميذ.
وما كادت عقارب الساعة تشير إلى الثامنة، حتى أيقن المشاركون في هذا اليوم التاريخي أنهم نجحوا في شل الحركة التعليمية. عندها، انتقلوا على عجل إلى شل القطاع المصرفي وإغلاق المصارف التي بدأت دورة جديدة من النصب وكأنّ شيئاً لم يكن.
في ساحة بعبدات، خطب الجميّل مؤكداً أن وقوفه مع الأهالي ما هو إلا ترجمة لما قاله في 25 نيسان 2022 أمام الجالية اللبنانية في دبي، حين جزم بأن ما تسعى إليه «المنظومة» بعد الانتخابات هو «تطبيق مبدأ عفا الله عما مضى في كل الأمور من انفجار المرفأ الى شطب السبعين مليار دولار من أموال المودعين». ولذلك، آثر التحرك مع حزبه العريق، الطويل العريض، لتطبيق المحاسبة. وعلى وقع هتافات التأييد لمصداقية الكتائب عموماً والجميل الحفيد خصوصاً، تحمّس حنكش فذكّر بما قاله في الاحتفال نفسه، حين أكّد أن برنامج الكتائب مؤلّف من كلمة واحدة فقط: «الوضوح». وها هم اليوم في الشارع يكرسون هذا الوضوح: وضوح في الموقف من الأملاك البحرية، ومن مكب النفايات الذي لا أحد يعلم لماذا اعتصم الكتائبيون عند مدخله قبل بضع سنوات ولماذا فكوا الاعتصام، وفي الموقف من حق التلامذة بالتعليم، وحق المودعين بودائعهم. وضوح فوق وضوح، يراكمه حزب الكتائب من جيل إلى جيل، من دون إيلاء أهمية للأسئلة البديهية، مثل: من، ماذا، متى، كيف، أين، ولماذا، طالما أن «ثمة شباباً قرروا عن إرادة أن يواجهوا» وفق حنكش. فهذه كلها أسئلة ثانوية؛ المهم أنهم قرروا - مع إرادة - أن يواجهوا.
بدوره تحسس رياشي، كالعادة، من «قطف» الكتائب للجو، فأحاط نفسه ببعض أنصار القوات وانطلق نحو البحر، هاتفاً: «بدنا شطّ ببلاش، شط عام لكل الناس، بدنا نلبس مايوهات». ورغم القافية المضروبة في هتاف وريث الأديب اسكندر رياشي، انضم إليه مئات التلاميذ للمطالبة بمساحة عامة صغيرة، كحديقة النائب الراحل ميشال المر في ضبية مثلاً الذي توفي قبل أن تُفتتح الحديقة ويكاد حفيده ينهي دورته النيابية الأولى من دون افتتاحها، لمجرد أنها تشكل خطراً على المجمعات التجارية والحدائق الخاصة القريبة منها.
من على جسر النقاش، كان يمكن رؤية المر يسابق رياشي ركضاً، وخلفه عشرات المرافقين، للوصول إلى الأمتار القليلة المتبقية من شاطئ المتن الشمالي، حيث تتجمع المجارير خلف مرفأ الصيادين. هناك عاهد المر المواطنين بأن ينجز نواب المتن واتحاد البلديات الذي ترأسه عمّته إعادة تأهيل محطات تكرير الصرف الصحي، فسرت رعشة سحرية بين المحتشدين، إذ ذكّرهم المر الحفيد بالجد، فتزاحموا لحمله على الأكتاف من نهر الكلب، حيث استحدث رجال الأعمال تحت أنظار التغييريين و17 تشرين مزيداً من المخالفات، صعوداً إلى بتغرين.
وفي المدينة الصناعية في مزرعة يشوع، كان كبار الصناعيين في المتن ينتظمون خلف أبي صعب لتحويل ما يرددونه منذ عقود عن كلفة الكهرباء إلى أفعال عبر الاستثمار في خطة عملية لتوفير الكهرباء من مصادر الطاقة البديلة المتعددة، وإيجاد حلول مع وزارة المال في ما خصّ المواد الأولية المستوردة للصناعة وحماية الصناعات اللبنانية وتنظيم العلاقة مع البلديات التي ضاعفت رسومها أكثر من ستين مرة، فيما هي تجبي من مصنع وتتجاهل آخر.
هنا، أخذت الحماسة النائب القواتي رازي الحاج المعنيّ بهموم الطبقة الوسطى، فطمأن ناخبيه بأن القوات لم تضيّع دقيقة واحدة منذ انتخابات 2022 وحقّقت ثلث ما وعدت به في الثلث الأول من هذه الولاية الانتخابية، خصوصاً لجهة «اعتماد التصويت الإلكتروني في مجلس النواب وجعل جلسات اللجان النيابية علنية ومتاحة، ووضع نظام داخلي لمجلس الوزراء، واعتماد الحكومة الإلكترونية، واعتماد آلية لتعيينات الفئة الأولى، وتعيين الهيئات الناظمة لكل القطاعات الحيوية في الدولة، وتنفيذ خطة تصغير حجم القطاع العام، وتعزيز الأجهزة الرقابية، وضمان تنفيذ قانون حق الوصول إلى المعلومات، وتفعيل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد». وأمام هتافات التأييد، لوّح بقبضته هاتفاً: «دعوني أقتبس عن الدكتور سمير جعجع في يوم إعلان لوائح القوات، حين أكد أننا نعمل لبناء اقتصاد حر تنافسي مسؤول اجتماعياً ينافس إقليمياً ودولياً، يحفظ حقوق المستهلك بدعم ورقابة المجتمع المدني».
مجدّداً عاد الكتائب لمزاحمة القوات، فأبعد حنكش رازي عن المذياع وصارح – بوضوح – المحتشدين: «معاً سنقضي على الفقر والجوع ونؤمّن التغطية الصحية والتعليم والحفاظ على البيئة والثروات الطبيعية البرية والبحرية»... قبل أن «يدفشه» رازي ليواصل: «سنحارب حزب الله قبل الظهر، وتغير المناخ بعد الظهر، ونؤمّن المساواة والعدالة في المياه والطاقة النظيفة وشبكة الصرف الصحي تماماً كما وعد الحكيم في برنامجنا الانتخابي».
كان الناس في الطرقات وعلى شرفات المنازل وفي السيارات يهتفون للإصلاح ولفتيان الكتائب؛ أناشيد وأغانٍ وزكي ناصيف يعد برجوع لبنان أحلى مما كان حتى في عهد الرئيس أمين الجميل. جموع تلوّح للكاميرات مردّدة «إنه الشعب، وإنها القوات». ثورة ملوّنة سريعة تتنقل من قطاع إلى آخر في سلسلة بشرية لم تترك مدرسة أو جامعة أو مستشفى أو جمعية أو بلدية إلا وتوقفت أمامها لتسأل وتسائل. حتى المرشح السابق جاد غصن الذي منحه الناخبون في المتن ما لم يمنحوه لأحد في السابق، كان هو وأصدقاؤه وسط هذا البحر الشعبي الهائل، إذ يؤكد غصن أنه ليس ممن يخوضون الاستحقاق ثم يغيبون أربع سنوات لمجرد أنه لم يفز بالكرسي النيابي، وهو معهم لتحقيق كل ما قاله في إعلان لائحة «نحو الدولة».
وما كادت تغيب شمس هذا اليوم الاستثنائي في المتن أمس، حتى كانت التظاهرة قد بلغت بلدة برمانا وفاضت صعوداً حتى ضهور الشوير تطالب بإعادة هذه البلدات السياحية بهمّة العونيين والقوات والتغييريين والمر إلى الخارطة السياحية.

ملاحظة أولى: سُجل غياب لحزب الطاشناق الذي لم يجد بعد دراسة دقيقة لنتائج الانتخابات النيابية الأخيرة أن هناك ما يستدعي تفعيل حركته أو تغيير نمط حركته من أساسها أو تعزيز ديناميكيته أو غيرها.
ملاحظة ثانية: كانت المشاركة العونية خجولة بحكم تمثيل العونيين كما يقول رئيس حزب القوات اللبنانية في مجالسه أقل من عشرة في المئة في المناطق المسيحية، فيما كانت المشاركة الضخمة والصاخبة لكل من القوات والكتائب.
ملاحظة ثالثة: مقتضيات المواجهة مع حزب الله والصمود والتصدي تحول دون التفات الحاج وحنكش ومن أمامهما وخلفهما إلى هذه جميعها حيث لا يمكن إضاعة الوقت والجهد في معارك جانبية ثانوية، لأن الحق في الحياة في وطن لا وجود لسلاح حزب الله فيه، أهم من الحق في التعليم والحق في التنقل والحق في الودائع المصرفية والحق في العيش الكريم. وهو ما يلزم البعض - بمن فيهم كاتب المقال - إلى الاستعانة بالخيال كواحد من أقوى طرق تغيير الواقع إن لم يكن أقواها على الإطلاق.