آخِر ما كانت تريده السعودية مشاهد الابتهاج بسعد الحريري في بيروت، والمسيرات السيّارة في مختلف المناطق ترحيباً بعودته ومطالبة ببقائه.سبعة أعوامٍ مضَت على اعتقال الحريري في الرياض وإجباره على الاستقالة، وعامان على اعتكافِه العمل السياسي، ومثلهما تقريباً منذ الانتخابات النيابية الأخيرة، ولا يزال الرجل يثبت أنه موجود كلما بدا لهم أنهم «انتهوا» منه. المملكة التي نصّبت نفسها وصيّة على السّنة، تمنح الزعامة لمن تشاء وتسحبها ممن تشاء، يُفرض عليها اليوم سعد الحريري، كأفضل الموجود، بعدما ثبت أن كل من حاولوا وراثته «بضاعة» غير قابلة للتسويق.
الحراك الشعبي الذي رافقَ زيارة الحريري لبيروت لمناسبة ذكرى 14 شباط، وبدأ بحملة على مواقع التواصل الاجتماعي تحتَ عنوان «تعوا ننزل ليرجع»، اتّخذ طابعاً تنظيمياً في تيار «المستقبل»، ويُنتظر أن يُترجم اليوم بحشود كبيرة في محيط مسجد محمد الأمين في وسط بيروت إحياءً للذكرى.
ولليوم الثاني بقي الحريري «نجم» الساحة في بلد يعاني من البطالة السياسية. وساعدت في ذلك، أيضاً، رغبة لدى «الرئيس الزائر»، بأن يكون في الضوء، على ما كان عليه الأمر في العامين الماضيين، إذ فُتِح باب الاستقبالات الرسمية على مصراعيه لكلّ «الطارقين»، وفي مقدّمهم السفيرة الأميركية الجديدة في بيروت ليزا جونسون التي كانَ يفترض أن تلتقي الحريري لنصف ساعة، قبل أن «يكرّ» الوقت إلى 45 دقيقة، ووصفت اللقاء بعد خروجها بـ«الممتاز»، قبا أن يليها السفير المصري علاء موسى، ثم الروسي ألكسندر روداكوف و«أصدقاء» من بينهم نائب رئيس المجلس النيابي السابق إيلي الفرزلي والنائب ألان عون والنائب أحمد الخير. كما زاره مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان مع وفد كبير من المشايخ ضمّ مفتي المناطق وأعضاء المجلس الشرعي والعلماء، قبلَ أن يُختتم نهاره بلقاء لافت تخلّله عشاء مع رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية بحضور النائب طوني فرنجية والوزير السابق يوسف فنيانوس.
كلّ من زاروا الحريري لمسوا «تغييراً ما» لم يقتصر على الـ«نيو لوك». وحتى من هاتفوه أكّدوا أنه «مرتاح». فقد بات «يتحدث أكثر» بعدما كان كتوماً ومنطوياً على نفسه يرفض الأخذ والرد، بل عاد إلى الحديث في السياسة التي سبق أن قاطعها، متناولاً بعض الملفات. غير أن أحداً ممن زاروه وحثّوه على التفكير جدياً بالعودة عن قرار الاعتكاف، لم يلمس منه استعداداً للعودة أو موقفاً يبرّر التفاؤل الذي ظهر في كلام محيطين به عن «عروض» يدرسها لاستئناف نشاطه.
بدا الحريري لمن زاروه وهاتفوه أقل يأساً وأكثر ارتياحاً وانغماساً في السياسة


رغم ذلك، تؤكد مصادر أنه لا يُمكن التعامل مع زيارة الحريري لبيروت هذه المرة خارج سياقات المنطقة الملتهبة. فـ«في كل مرة، يُحكى فيها عن تسويات، يبرز اسم الرجل كخيار ولو لم يكن متاحاً. ولحسن حظه، ثمة دائماً ما يعيد التذكير به». المختلف هذه المرة أن الحريري لم يبدُ يائساً. صحيح أن «الحرم» السعودي عليه لا يزال سارياً وأن الرياض لم تستجب لكل من جرّب سابقاً، ومن بينهم الفرنسيون، إقناعها بـ«العفو». غير أن الرهان اليوم هو على أن الظروف ربما تلعب لمصلحته، وأن التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة لا بد أن تقود في النهاية إلى تسوية كبرى تطيح بالقرار السعودي. فتسوية كبرى تعني سعد الحريري قائداً للسّنة في لبنان، أولاً باعتباره الأصيل، وثانياً باعتباره ممثلاً لحالة الاعتدال في منطقة مدفوعة نحو التطرف.
ويقول مطّلعون إن الرجل وصلته إشارات دولية بأن يكون حاضراً لأنه سيكون مطلوباً عندما تدقّ ساعة التسوية. ولأن العودة لا يُمكن أن تحصل على غفلة، كانَ لا بد من بروفا شعبية - سياسية تشكل اختباراً لمدى التجاوب معه، وهي بروفا «نجحت إلى حد ما». لكنّ موعد العرض الحقيقي قد يتأخر أو لا يأتي، فكله مرهون بالتطورات ومساراتها. لذلك، الأمر الوحيد المؤكد أن الحريري سيغادر بيروت خلال أيام، بعدَ أن يكون قد أدّى فروضه، وحصل على نتيجة «الأول» في الصف السياسي السّني تأكيداً على أن الزعامة لم تؤلْ إلى غيره. أما عودته مرة أخرى فستستغرق وقتاً ربما يطول في انتظار اتضاح الصورة الإقليمية.