لا يزال عقل المستعمر الأميركي يحاول استعادة توازنه بعد صفعة «طوفان الأقصى». فهو يعترف بأن الفشل الاستخباري يطاوله ويطاول تفوّقه التقني والأمني، وبذلك فإن استعادة الردع في فلسطين تمتد إلى الإقليم، كما أن الردع ليس محصوراً بالعدو الصهيوني.يظهر ذلك من تخبط تحليلات مراكز التفكير وتوصياتها، رغم إجماعها كلها من يمينها إلى «يسارها» على الدعم الحديدي لحقّ العدو الصهيوني في «الدفاع عن نفسه»، وإجماعها على ضرورة إحياء جدار جابوتنسكي الحديدي صراحةً أو مواربة.
تمّ رصد مواقف 14 مركزاً منذ بداية الحرب، موزّعة في كتل ثلاث؛ أولاها الأقرب إلى موقف الإدارة الأميركية وتضم مجلس العلاقات الخارجية (CFR) ومعهد بروكينز ومعهد كارنيغي ومجموعة الأزمة الدولية (ICG) ومركز الأمن الأميركي الجديد (CNAS) ومعهد واشنطن. وثانيتها هي الأقرب إلى المحافظين والحزب الجمهوري، ومنها «هيريتيج» ومعهد المشروع الأميركي لأبحاث السياسة العامة (AEI)، وبينهما مركزا «راند» ومركز الدراسات الإستراتيجية والدولية (CSIS) المرتبطان بالمجمّع الصناعي العسكري (والأمني)، علماً أن الأخير يُعدّ بؤرة محاولات الإمارات العربية المتحدة للتأثير في صناعة القرار الأميركي. بالإضافة إلى مركزي «كاتو» و«كوينسي» اللذين يدّعيان محاولة ترشيد استخدام القوة والتوسع الإمبراطورييْن لأميركا.
أبرز القضايا الملحّة على أجندات هذه المراكز - في الشهرين الأوليْن من «طوفان الأقصى» والعدوان الصهيوني على غزة - توزّعت ضمن العناوين التالية:

المضاعفات الإقليمية والدولية


أغلب المراكز تخفي مخاوف توسّع الحرب تحت مسمى الردع المتبادل، ولكنها تحذّر في الوقت نفسه من احتمال الانزلاق اإى حرب إقليمية بسرعة. من الاستثناءات البارزة في هذا الشأن، من يرى أن الطوفان مشروع إيراني، ومن هؤلاء معهد «بروكينغز» ومركز دراسات الحرب (ISW). أما «هيريتيج» فقد ألقى باللوم على الصين لزعزعة الأمن الإقليمي! ورغم التخوف من التوسع، لم يتوانَ بعض المعاهد عن دعوة الكونغرس الأميركي والإدارة الأميركية إلى اتخاذ إجراءات عقابية خانقة ضد إيران، ومنها معهد AEI، وأخرى من بينها المجلس الأطلسي، أخذت في نسج التخيلات حول عجز الجمهورية الإسلامية عن تحشيد الرأي العام للوقوف إلى جانب فلسطين، وأن المحصّلة النهائية لهذه الحرب قد تأتي بنتائج داخلية تزعزع الأمن الداخلي فيها.
مخاطر إقليمية أخرى تمثلت بزعزعة التحالفات، إذ يهدّد غضب الشارع في دولة حليفة كالأردن المصالح الأميركية في المنطقة (ICG,Quincy)، والتهديد الأكبر يأتي من باب المندب على يد اليمن الذي يهدّد، بحسب معهد AEI، المصالح الأميركية، فيما تهديد أميركا بالعقوبات دليل على انعدام قدرة الأميركي على الردع في المنطقة.
معهد CNAS، بدوره، يدعو إلى توسيع الصراع على شكل تحالف إقليمي أو دولي لأن العدو غير قادر عسكرياً أو استخبارياً على القضاء على حماس، مع تخفيف وتيرة الحرب وإطالتها. أما المجلس الأطلسي فيجد أن انسحاب أميركا من المنطقة تسبّب بطوفان الأقصى (موقف يؤيده أيضاً معهد بروكينغز)، ويعتبر أن على الولايات المتحدة تعزيز وجودها في المنطقة لردع التوسع الصيني (معهد AEI يرى أن الصين هي الرابح الأكبر). علماً أن تصعيد وتيرة الصراع قد يدفع إيران إلى خيار التسلح النووي الكامل. CFR بدوره يرى أنه - ربما - لا يجب على أميركا الخروج من المنطقة، وأن الطوفان وضع المصالح الأميركية في المنطقة ككل في خطر وأرجعها إلى الوراء، وأن شعبية الولايات المتحدة وقواعدها في خطر كما حصل بفعل الغضب الشعبي في تركيا على سبيل المثال. وأشار «معهد كاتو» إلى أن الدعم العسكري للعدو يأتي على حساب تايوان وإستراتيجيتها في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ لا على على حساب أوكرانيا كما يشاع، ما يجعل هذا الدعم أكثر تهديداً للمصالح الأميركية الجيوستراتيجية الأكثر أهمية من الشرق الأوسط بكل مشاكله.

خطة اليوم التالي
ماذا عن اليوم التالي؟ الإجابة على هذا السؤال تظهر حجم التخبط في عقل الإمبراطورية، حيث تظهر التباينات حتى داخل المعهد الواحد، الجميع يتحدث عن السلام بعد الحرب، والجميع يتحدث عن الخطط المبنية على فرضية هزيمة المقاومة الفلسطينية رغم إجماعهم على استحالة ذلك، في هذا السياق يبدو الحديث عن هذه المشاريع نوعاً من الترفيه، إلا أن علينا أخذ سلاح المجاعة والأوبئة في الاعتبار لمحاولة فرض أي من المشاريع المطروحة. وهنا نورد بعضاً منها:
- مؤسسة راند: التهجير داخل القطاع أفضل الخيارات السيئة.
- AEI: إعادة الإعمار بإشراف هندي، إعادة إحياء سلطة تكنوقراطية على أيدي شخصيات من نمط سلام فياض وإشراف دولي.
- ICG: السلام ولكن ليس بالضرورة على أساس حل الدولتين وتليين المواقف الصهيونية بالتخلص من نتنياهو (بروكينغز أيضاً يرى أن إزاحة نتنياهو تفتح أفقاً لليوم التالي). يمكن لمصر أن تبدي ليونة حول خيار التهجير إلى سيناء تحت ضغط أزماتها الاقتصادية.
- معهد كارنيغي للسلام: لا يوجد يوم تال، مقترح لمبادرة سلام عربية ثانية على قاعدة حقوق الإنسان بعيداً عن حل الدولتين.
- CFR: لا يمكن للإدارة الأميركية جرّ العدو الصهيوني إلى حلوله لأن العدو يرى نفسه مهدداً وجودياً. لا يمكن إعادة السلطة على ظهور دبابات صهيونية، والدول العربية الحليفة غير مستعدة للتدخل و«التنظيف» من وراء جيش العدو، وبالتالي الخيار الأفضل خلق فترة فاصلة بين العدوان الصهيوني والتدخل العربي تملؤه المنظمات الأممية والدولية. أما الخطة الأكثر واقعية بالنسبة إلى العدو فهي احتلال ممتد زمنياً.

عن «السيوف الحديدية»
هناك شبه إجماع حول فشل عملية «السيوف الحديدية» في تحقيق هدفها المعلن، أي القضاء على حركة حماس والمقاومة في غزة، وفي الوقت نفسه هناك إجماع على ضرورتها. أما في ما يخص «الكلفة» البشرية، فتتفاوت اللغة لكن المحصّلة واحدة، أي أن هناك من يتحدث صراحة عن إستراتيجية كيّ الوعي عن طريق العقاب والقتل الجماعييْن للفلسطينيين، وأن العنف المفرط يضعهم أمام خيار واحد: التعايش مع كيان العدو. والأبرز في هذه الفئة معهد «هيريتيج» على لسان نائبة رئيس المعهد فكتوريا كوتس (مسؤولة أمن قومي سابقة في الإدارة الأميركية، كتبت مقالاً تشرح فيه أن زئيف جابوتنسكي كان محقاً ورؤيوياً)، ومعهد CSIS الذي أكّد الأمر نفسه على لسان جون الترمان. على «يسار» هؤلاء، نجد ماكس بوت من CFR متفائلاً بعض الشيء بتحقيق العدو نتائج على الأرض على ظهر «كلفة» بشرية مهولة، في وصف مخجل لجرائم الإبادة في غزة.

جرائم الحرب وتبني السردية الصهيونية


هناك إجماع على إدانة طوفان الأقصى كعملية إرهابية وإنكار للمسؤولية الصهيونية عن قتل الكثيرين في يوم السابع من تشرين. الأمر نفسه ينطبق على استهداف المستشفيات والمدنيين وإطباق الحصار مع بدء العدوان الصهيوني، في تبنٍّ كامل للسردية الصهيونية بحجة استخدام المدنيين كدروع بشرية، وأن فكّ الحصار يشكل خط إمداد للمقاومة.
أكثر من ذلك، برّر ستيفن كوهين من «مؤسسة راند» قصف معبر رفح بتخوف العدو من تهريب الأسرى إلى خارج القطاع. واعتبر أن الغرب منافق ومجحف في انتقاده لدولة العدو مهما فعلت، وأن حروب العدو السابقة الأكثر ترشيداً والتي فشلت في القضاء على المقاومات تلقّت النقد ذاته (يؤيد هذا الموقف كل من هيريتيج وCFR وAEI).
في ما يخص جرائم الحرب والمحاسبة عليها وتورّط الأميركيين فيها، هناك تشكيك كبير في صحتها والقدرة على إثباتها والمحاسبة عليها بالنسبة إلى «CFR». مع ذلك، هناك خطاب مراوغ من المجلس حول الدور الأميركي في ضبط الإجرام الصهيوني، «ICG» قلق بخجل حول المسؤولية الأميركية عن هذه الجرائم، بينما معهد كوينسي أكثر وضوحاً بالتورط الأميركي في الجرائم الصهيونية.
معهدا كاتو وكوينسي بدورهما يدعوان أميركا إلى ابتزاز العدو من خلال شحنات السلاح لوقف الحرب، خوفاً على المصالح الاستعمارية بالمقام الأول. ويرى معهد كاتو أن انخراط الولايات المتحدة في هذه الصراعات النائية غير المجدية هو نتيجة المصالح الضيقة للقائمين على مجلس الأمن القومي في الإدارة (المسيطر عليه تاريخياً من قبل CFR). كوينسي بدوره يرى أن المجمّع الصناعي العسكري يشهد انتعاشاً كبيراً بفعل الدعم الأميركي للعدو.
وحول أمد الحرب ووقف إطلاق النار، برز معهد «هيريتيج» بتحذيره الحكومة الأميركية من فرض أي نوع من وقف إطلاق النار غير الناضج بالتوقيت الصهيوني، وأبدى CSIS تخوفاً من إطالة أمد الهدن الإنسانية، ورأى CFR أن العملية تحتاج إلى شهور، إلا أن الصور المروّعة من قطاع غزة تتفوّق على السردية الصهيونية وستؤدي إلى إيقاف العملية بشكل أسرع.

مستقبل التطبيع


بالنسبة إلى CFR، فإن التطبيع وتكامل كيان العدو مع دول المنطقة مصلحة إستراتيجية للأميركيين لضمان السيل الحر للبضائع والطاقة، ويرى المجلس أن الصراع الحالي يبطّئ التطبيع، لكنه لن يوقفه أو يقلب الحلفاء ضد أميركا.
معهد هيريتيج يؤكد أن السعودية لا تزال متوثّبة «للسلام»، بينما تشعر الإمارات بالإحباط بعد الاتفاقات الإبراهيمية من البرود الأميركي تجاه المنطقة. ويرى المعهد أن على الدول العربية تبنّي ضرورة الدفاع عن كيان العدو.
معهد CNAS يبالغ في التفاؤل بأن مشاريع التطبيع لم تتأثر على الإطلاق، بل إن حماس حاولت تخريبها فجاءت النتائج عكسية.
المجلس الأطلسي يرى أن تباطؤ مبيعات الأسلحة لشركاء أميركا في المنطقة أدّى إلى تآكل الردع في وجه إيران، وأن دول الخليج ترقُب بتوتر وعيونها على أميركا وكيان العدو وإيران. ولدى الإمارات ودول التطبيع إحباط لشعورها بأنها حليف لا يستحق الإنقاذ.
معهد كاتو يرى أن خروج أميركا من المنطقة لا علاقة له بطوفان الأقصى، وأن مصلحة أميركا الوحيدة هي الخروج منها بأيّ ثمن.

تآكل القوة الناعمة
من أبرز الخسائر الأميركية والصهيونية وضوح صورة التوحّش أمام جماهير الشرق والغرب والجنوب على حد سواء. اللافت في هذا الشأن هو خطط استعادة القوة الناعمة. الأكثر تطرفاً طبعاً معهد «هيريتيج» الذي يريد ترحيل مؤيدي حماس من الأراضي الأميركية والاستعانة بهمجية تاتشر في قمع مؤيدي فلسطين في الغرب، ووضع الصهيونية كعدو لكل الشعوب الملوّنة باعتباره أن لا أحد يدعم فلسطين في الغرب سوى الملوّنين الدخلاء على الحضارة الغربية. أما CFR الذي يفترض أن يكون أكثر واقعية وبراغماتية، فيريد إعادة توجيه خطاب قناة «الجزيرة»، وإعادة تثقيف الشباب العربي والغربي لبناء إجماع حول كيان العدو ومصالحه.
بدوره رأى معهد كوينسي أن الهدن المؤقتة واستكمال الحرب من بعدها، كل ذلك سيورّط أميركا أكثر في حرب إقليمية، وأن روسيا والصين ستستخدمان كل هذا الإجرام ووقوف أميركا مِن ورائه للتوسّع أكثر إقليمياً، وكل هذا سيجعل من ولاء الأنظمة الحليفة بلا جدوى خصوصاً مع تصاعد الاحتقان والغضب الشعبييْن.