... وفي الموعد المحدّد تماماً أتاهم.عند الثالثة من بعد ظهر الجمعة، الموافق يوم الثالث من تشرين الثاني، أتاهم كما اعتاد أن يأتيهم وأكثر. أتاهم مدجّجاً بالثقة ومغموراً بالاطمئنان ومعززاً بالأمل ومصحوباً بالشجاعة ومسلَّحاً بالإقدام ومزيّناً بالجسارة ومكلّلاً بالصلابة ومعها العزم والإرادة والقدرة على... الفعل والتغيير.
أتاهم كما اعتاد أن يفعل وأكثر. أتاهم من حيث لم ولن يحتسبوا يوماً. فكان لخطابه أثر العبور ذاته وفعله، ذاك الذي زرع الرعب وبثّ الهلع وأقلق الراحات وهزّ «الثوابت» وأطاح بـ «اليقينيات» واستدعى تعزيز الأساطيل واستقدام البوارج ونشر الجنود واستنفار القواعد...
أتاهم بخطاب عبور مكمّل ومتمّم لعبور الأمس القريب ليعضده ويشد من أزره ويثبت حقائقه الصلبة.
أتاهم بـ «خطاب الفصل» الذي رسم معالم الغد، وعيّن تفاصيله وكشف عنها. وهو الغد الذي لا يملك إلا أن يكون إلا على مستوى الدماء وكبر التضحيات وجزالة البذل... ويليق بالهدف الذي تنطوي عليه المهج وترنو إليه العيون وتخفق من أجله القلوب وتهفو إليه النفوس وتعمل من أجله السواعد وتنضم له القبضات وأصابعها التي تضغط الزناد المشدود.
أتاهم بما يؤكد ما صارت إليه المقاومة من عقلنة متقدّمة لا تأخذها الشعارات، ولا يشوش عليها الصخب، ولا تنطلي عليها الحماسة، ولا تفوتها الحسابات، ولا يغيب عنها الانتباه إلى التفاصيل، كل التفاصيل، الصغيرة منها قبل الكبيرة...
أتاهم بما يفرض على كل «أمّ» إسرائيلية تنشد الطمأنينة أن تهلع، وعلى كل «أب» إسرائيلي يفكّر في الاستقرار أو يسعى إليه أن يقلق، وعلى كل شاب (أو شابة) في إسرائيل يحلم بمستقبل ما أن يُقلع عن ذلك فوراً، وأن يسارع إلى إعادة النظر في مشاريعه وأن يتخلى عن خططه الموضوعة أو تلك التي يفكر في وضعها. فاهتزاز الأرض التي استندوا إليها عند نشدان الأم للطمأنينة، وسعي الأب إلى الاستقرار، وحلم الشاب أو الشابة بمشاريع الغد، ينذرهم فرداً فرداً و«أسرة» بعد «أسرة» ومستوطنة بعد مستوطنة بأن ما كان، قبل العبور وزمنه، لم يعد ممكناً له أن يكون. فالأرض التي مادت بهم جراء «الطوفان» المجيد لم تعد صالحة لبقائهم، ولن تلبث، إن لم يكن اليوم فغداً وإن لم يكن غداً فبعده، أن تطيح بكامل «البنيان» وتقوّضه التقويض الذي لا بناء ممكناً له من بعده.
ربما كان من حق إسرائيل أن تفرح بوقوف «العالم» و«سادته» المزعومين إلى جانبها. وأن تنظر إلى وقوفهم هذا بوصفه من تعبيرات القوة التي تضاعف من قوة ترسانة الحرب التي تملكها وتضاف إليها. لكن الواقع الذي غاب ويغيب عنها وعن الذين سارعوا إلى الانخراط في الحرب على المنطقة عبر الإعلان عن وضع إمكاناتهم الحربية بالتصرف الإسرائيلي، هو غير ذلك تماماً. فالعالم الغربي الذي هبّ للوقوف إلى جانب إسرائيل وخلفها وأمامها (وتحتها وفوقها!) قد أكد، وربما من غير أن يقصد، ما كان مؤكّداً لجهة الضعف المتفشي في أوصال المخفر الغربي الأهم وكشف عن تدهور حاله وحتمية زواله... بل وحاجته إلى من يدفع عنه الأخطار. وهو ما يمثل انقلاباً في الأدوار لن يكون بلا أثر في الهدف الأصلي الذي فرض استنبات الكيان.
الإصرار الأميركي المجنون على استمرار الحرب الإبادية على غزة وعموم فلسطين، والمشاركة في المجازر التي تتركز على المنازل والمستشفيات والمدارس ودور العبادة... هو الوصفة المثالية التي ستقود إلى توسع نيرانها وحتمية امتداد لهيبها بعيداً وعميقاً. فالتوسع الذي يزعم الغرب أنه لا يريده ويعمل لتجنبه لا يمكن أن يتحقق إن لم يرفقه بالتواضع. وأول التواضع الذي بات ملزماً به، ولا يملك غيره، هو وجوب الإقرار العاجل والفوري بالحقائق التي أفرزها فعل «العبور الغزاوي المجيد» والامتثال لمقتضياته «الزلزالية». بل إن الرهان الغربي على استعادة المبادرة عبر استمراره في تنظيم المجازر في حق المدنيين، والمواظبة على إطلاق التهديدات و«تطيير» رسائل القوة واستعراضات البوارج والأساطيل لم يعد لها في الواقع المحل الذي كان لها، بل إن مضامينها الرثّة لا ترجمة عربية لها. وعليه، عليهم أن يعلموا أن قيمتها عند من يملكون القرار ومعه العزم والإرادة والوضوح... تساوي صفراً مكعباً.