لم تكد تمضي ثمان وأربعون ساعة على عملية «طوفان الأقصى»، في السابع من تشرين الأول الماضي، حتى خرج مفوض الاتحاد الأوروبي لشؤون التوسّع والجوار، أوليفر فارهيلي، معلناً «وضع المفوضية الأوروبية محفظتها التنموية الكاملة للفلسطينيين، والتي تبلغ قيمتها الإجمالية 691 مليون يورو، قيد المراجعة»، ردّاً على ما وصفه بـ«الإرهاب والوحشية ضد إسرائيل وشعبها». هذا الموقف من ضمن السُّعار الذي عبّرت عنه قيادات الغرب الجماعي، كان بمنزلة إعلان حرب شاملة على الفلسطينيين وكل متعاطف معهم، وفي قلب هذه الحرب برزت قضية إجبار منظّمات المجتمع المدني الفلسطينية على اتخاذ مواقف منحازة لحرب العدو على شعبها
أكثر ما يسترعي انتباه المراقبين لسلوك الدول الغربية في الحرب الصهيونية المستمرّة على الشعب الفلسطيني، خصوصاً في قطاع غزة، الإصرار على تغطية جرائم الإبادة الجماعية ضد الشعب الأعزل. يزخر الخطاب المسعور لقادة هذا الغرب بتبريرات لاستهداف المنشآت المدنية كالمستشفيات ورفض الاعتراف بأعداد الشهداء والجرحى الفلسطينيين، ويعكس حقيقة الوجه البشع للمنظومة الغربية الاستعمارية التي تسلّلت في العقود الماضية إلى منطقتنا، خصوصاً إلى فلسطين المحتلة، لمحاولة تمكين الاحتلال عبر محاولة ترويض الروح المقاوِمة للشعب الفلسطيني بالأدوات الناعمة.
في 16 الشهر الماضي، أصدرت 33 منظّمة ومؤسسة فلسطينية بياناً أدانت فيه التهديد بقطع التمويل الأجنبي عنها، ووصفت «منظومة التمويل الدولية» بأنها «أداة في صندوق أدوات الهيمنة الاستعمارية في منطقتنا»، توظّف «كسلاح من أجل تركيع الفلسطيني»، وخطاب التنمية والمعونات بأنه «مرادف للتبعية السياسية المفروضة علينا بهدف إخضاعنا، وتثبيط النضال، وتفتيت حاضنته الشعبية».
«الأخبار» تواصلت مع بعض القيّمين على إدارة عدد من هذه المؤسسات، للوقوف على طبيعة ما جرى بينها وبين الجهات المانحة، فأفادوا بأنّ المؤسّسات المانحة - الأوروبية تحديداً - تصرّفت بأساليب متنوّعة. فمنها من قرّر ابتداءً، وقبل أن يتواصل مع الجمعيات الفلسطينية ليطلب منها أي شيء، أن يجمّد صرف المعونات والمساعدات، ليتسنّى له «الفحص والتدقيق بالوجهات التي تذهب إليها أموالهم»، رغم أنّ هناك آليات موضوعة سلفاً منذ سنوات للتدقيق في وجهات صرف الأموال، وفقاً لفراس جابر المؤسس والباحث في «مرصد السياسات الاقتصادية والاجتماعية» في رام الله.
البعض الآخر من المنظّمات لم يطلب مباشرة الحصول على مواقف صريحة من المؤسسات الفلسطينية بإدانة عملية «طوفان الأقصى» وحركة حماس، كشرط لاستمرار التمويل والمنح. لكن، وفقاً لجمال جمعة، منسق الحملة الشعبية لمقاومة الجدار والاستيطان، كانت هذه الجهات المانحة تسعى إلى استدراج المؤسسات الفلسطينية لاتخاذ مواقف في هذا الصدد، علماً بأنّ غالبية المنظّمات الـ33 الموقِّعة على البيان ترفض ابتداءً ربط التمويل بالمواقف السياسية، وفقاً لبدر زماعرة، المدير التنفيذي لـ«منتدى شارك الشبابي». وأضاف زماعرة أنّ سلوك الجهات المانحة هذه المرّة يختلف بصورة كاملة عما درجت عليه العادة في الاعتداءات الصهيونية على قطاع غزة في 2012 و2014 و2021، مفسراً ذلك بأنّه «محاولة تركيع» واضحة من هؤلاء المانحين، خصوصاً الألمان والسويسريين، علماً أنّ مؤسّسات أميركية لا تزال تصرف منحاً لمؤسسات فلسطينية أخرى، ولم تضع شروطاً لاستمرار التمويل.
وقال جابر إنّ التفسير المنطقي للسلوك الغربي المتوتّر في تعاطيه مع مسألة المساعدات والتمويل، في جزء منه يأتي لشعوره بالغضب كونه «اكتشف أنّه فشل في حربه الناعمة على المجتمع الفلسطيني»، رغم كل الإغراق في التمويل والبرامج المستهدفة التي استثمر فيها في السنوات الماضية لترويض الفلسطينيين.
بالتوازي مع موقف المؤسسات والمنظّمات الفلسطينية التي انتفضت لكرامة شعبها رافضة الابتزاز الغربي في مسألة التمويل، كانت منظّمات لبنانية تصدر بياناً، بالإنكليزية، موجّهاً إلى المانحين وليس إلى بيئتهم العربية، يعربون فيه عن صدمتهم من «الهجوم المروّع الذي وقع ليلة 17 تشرين الأول على المستشفى الأهلي»، في تجهيل واضح ومتعمّد لهوية القاتل. إذ إن تظهير مسؤولية العدو المباشرة عن مجزرة المستشفى المعمداني تتناقض مع الرواية الصهيونية الغربية التي فُرِضَت على الجميع، والتشكيك بها تترتّب عليه عقوبات من الجهات المانحة.
صحيح أنّ بيان المنظّمات اللبنانية تحدّث عن حصار الكيان الإسرائيلي لقطاع غزة، وأدان قتل جيشه للصحافي الشهيد عصام عبد الله، لكنه لم يخرج عن لغة ما يُسمّى «المجتمع الدولي»، بالتذكير بقوانين الحرب والقانون الدولي الإنساني وضرورة الالتزام بها، علماً بأنّ أوّل من داسها تحت الأقدام في هذه الحرب هذا المجتمع الدولي نفسه الذي يناشدونه. من هنا نفهم أنّ المنظّمات اللبنانية الـ19 الموقّعة على البيان المذكور، وغيرها من المنظّمات التي تقتات على التمويل الغربي نفسه، لن تنتفض كما انتفضت المنظّمات الفلسطينية لكرامة شعبها، بل ذهبت للتعبير عن قلقها «إزاء خطر حدوث أزمة إنسانية أعمق من شأنها أن تكون لها آثار مدمّرة على بلد يكافح فعلاً من أجل التعامل مع أزمات متعدّدة معوقة». إذا حدث وأن توسّعت الحرب وكان على اللبنانيين أن يواجهوا العدوان الصهيوني الشامل، كما هي الحال في غزة، لن نكون أمام خطاب وسلوك مختلفين لهذه المنظّمات، وعلينا أن لا ننتظر منها مواقف مختلفة، كون أنّ جزءاً كبيراً من الموقِّعين على «بيان القلق» متورّطون منذ سنوات في برنامج تشويه صورة المقاومة، بناءً على توجّهات المانح الغربي.