تحضر الميثاقيّة، كالعادة، في كل استحقاق دستوري، على شكل «شمّاعة» لتبرير موقف سياسي أو إفراغه من أي مضمون، تماماً كما يحصل اليوم، وذلك عندما يطرح البعض إشكالية «الميثاقية» أمام ممارسة الحكومة صلاحياتها أصالةً، وصلاحيات رئيس الجمهورية وكالةً، ما يعطل، برأينا، الدستور، وذلك للأسباب الآتية:- تنصّ الفقرة «ي» من مقدمة الدستور على أن «لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك»، وهو نصّ يمنع السلطات من العبث بحقوق الطوائف التي كفلتها قواعد النظام الدستوري في لبنان، وتحديداً الأعراف والمواد الدستوريّة ولا سيما منها: احترام نظام الأحوال الشخصيّة والمصالح الدينية (المادة 9)، حق إنشاء المدارس الخاصة للطوائف (10)، استحداث مجلس شيوخ عند انتخاب مجلس نيابي وطني لا طائفي (22)، المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في مجلس النواب (24)، تمثيل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الحكومة ومراعاة التوازن الطائفي في وظائف الفئة الأولى خلال المرحلة الانتقاليّة (95)، التوزيع الطائفي للرؤساء الثلاثة (عرف دستوري مكمّل)، ما يعني أن كل محاولة تهدف إلى انتهاك الحقوق السالف ذكرها هي، في النتيجة، تعدٍ على قواعد الميثاقيّة التي لا يجوز التوسّع بها وإلصاقها بمصالح أو أدبيات فريق سياسي هنا أو هناك. ذلك أن تعذّر انتخاب رئيس للجمهوريّة، على سبيل المثال لا الحصر، لا يعني حرمان إحدى الطوائف من التمثيل، انما هو حرمان الأفراد على إطلاقهم، كشريك آخر للجماعات (الطوائف) في الأمّة اللبنانيّة، من رمز وحدة الوطن (المادة 49 من الدستور)، والمؤتمن على احترام دستور الأمة وقوانينها (50)، على اعتبار أن مجلس النواب الذي تقاعس عن انتخاب رئيس الجمهوريّة في المواعيد الدستورية لم يغيّر من طائفة الرئيس بما يبدّد عرفاً دستورياً ويقوّض، استطراداً، الميثاقيّة. وبموازاة ذلك، إن ممارسة الحكومة، وكالةً، صلاحيات رئيس الجمهورية بالمعنى الضيّق وفق المادة 62 من الدستور لا تهدّد الميثاقيّة، لأنها ليست انتهاكاً لأيّ حق من حقوق الطوائف (الجماعات)، إنما هي، في الحقيقة، وسيلة لتحاشي الفراغ الذي من شأنه أن يهدّد حقوق الأفراد والطوائف المحمية في الدستور.
- حفاظاً على موقعية رئاسة الجمهوريّة، وما تمثّل على صعيد الوطن، حدّد المشرّع الدستوري، في المادة 62، آلية انتقال صلاحيات الرئيس إلى مجلس الوزراء بموجب الوكالة لا الاصالة. وبالتالي إنّ ممارسة الوكيل، في القانون العام لا الخاص، مقيّدة بالهدف الذي من اجله أعطيت الوكالة، وهو استمراريّة المؤسسات الدستوريّة منعاً لحدوث فراغ في الحكم، بما لا يجيز، تلازماً، بذريعة الفراغ، التعامل مع الواقع الدستوري المؤقت وكأن شيئاً لم يكن، لئلا يتم تكريس إحلال سلطة محل أخرى، ما يمنع الوكيل (الحكومة)، بصورة عامة، من ممارسة الصلاحيات الرقابيّة للرئيس (ردّ القوانين، الاعتراض على قرارات مجلس الوزراء، مراجعة المجلس الدستوري...)، انطلاقاً من موقعه كمؤتمن على احترام الدستور والقوانين عملاً باليمين الدستورية التي لم يُدلِ بها الوكيل أصالةً أو وكالةً فور تسلّمه المهام الموكلة اليه. وكذلك لا يمكنه ممارسة صلاحيات لصيقة بشخص الرئيس كصلاحية توقيع مرسوم تشكيل حكومة جديدة، لأنّ المادة 62 من الدستور أجازت للحكومة، مؤقتاً، ممارسة صلاحيات مؤسسة دستورية شاغرة لا تشكيل مؤسسة دستوريّة جديدة، فلا يجوز أن تنبثق من السلطة سلطة موازية تماماً، كذلك لا يجوز أن يغيّر الوكيل صفته أو عنوانه كما لو أجرت حكومة تصريف الاعمال تعديلاً وزاريا إرادياً، فهو عمل تصرّفي يخرج عن النطاق الضيّق، ويغيّر، تبعياً، من محورية وشخصية الوكيل الذي استحق الوكالة حكماً بقوة النصّ الدستوري...
- من الثابت، فقهاً واجتهاداً، أن الضرورة، وما تنتج عنها من مفاعيل، هي الضابطة في تضييق أو توسيع صلاحيات حكومة تصريف الأعمال. فهذا الأمر دفع المجلس الدستوري، وكذلك مجلس شورى الدولة، إلى حظر الفراغ والتعامل معه كمرضٍ يجب أن يعالج وفق الدواء الجاهز أو المناسب. وعلى ذلك فإنّ أُجيز لحكومة تصريف الأعمال أن تُعالج الاختلالات منعاً لامتدادها في كلّ الأرجاء بما لا يُعيق، في مكان ما، حقوق الافراد والطوائف، فلا يستقيم، عندئذٍ، أيّ حُكم يقضي بعدم جواز اتخاذ حكومة تصريف الأعمال صلاحية رئاسيّة تأتي في سياق ممارسة الحكومة صلاحياتها ضمن النطاق الضيّق وفق القيود الّتي حدّدها الفقه والاجتهاد (أزمات، كوارث، حروب، أعمال ادارية يجب إجراؤها في مهل قانونية معيّنة...) وذلك انطلاقا من مسألتين:
الأولى: الحكومة المستقيلة، وفق الفقرة الثانيّة من المادة 64، مدعوة، كهيئة جماعية، إلى ممارسة صلاحياتها ضمن المعنى الضيّق لتصريف الأعمال، لا سيما أن الفقرة نفسها تُطلق على الجهة التي استقالت والمعتبرة مستقيلة أو التي لم تنل الثقة بعد من المجلس النيابي عبارة «الحكومة»، ما يعطيها إمكانية الوكالة، ضمن القيود المذكورة، في ممارسة الصلاحيات الرئاسية القابلة للانتقال، والممثّلة، أصلاً، من كلّ الطوائف.
الثانية: إن جرى حجب ممارسة حكومة تصريف الأعمال للصلاحيات الرئاسية ضمن الدائرة المنشودة، حيئنذٍ لا معنى لالتزام تصريف الأعمال المطلوب من الحكومة المستقيلة ممارسته عملاً بالمادة 64، ولا معنى، استطراداً، للمادة الدستوريّة المذكورة، وهذا ما يتنافى مع المنطق في كلّ شيء، لأنه يستحيل أن يحظر الدستور التزاماً معيّناً أجازه في مواد أخرى، والعكس صحيح!
لذلك، ما دام أن تصريف الأعمال يتخذ طابعاً استثنائياً تبعاً للضرورات التي تقتضيها حاجة البلاد والعباد، فلا يجوز، والحال هذه، إفراغ مواد دستوريّة من مضمونها بحجة الميثاقيّة الّتي لا تمنع، نظرياً، من ممارسة سلطة دستوريّة لمهامها طالما لم تنتهك حقوق الطوائف، وطالما لم تمارس الصلاحيات الرئاسيّة كالمعتاد، وهذا ما يحتّم على المجلس النيابي، من دون إبطاء، أن ينتخب رئيساً للبلاد انتصاراً للدستور، وتلافياً لهذه الاشكالات بين حين وآخر.

* كاتب وأستاذ جامعي متخصّص في القانون الدستوريّ