ثمّة شعور بالعظمة يُراود أسيراً يفكّ أصفاده بيديه، يحطّم قضبان الأسر، ويخرج إلى الحرية ملكاً. حرية أحلى ما فيها أنها لم تُمنح، بل انتُزعت من براثن السجّان. ليس إفراجاً يا سادة ولا عملية فرار جماعي، إنه تحرير معتقل الخيام على أيدي الأهالي وخروج الأسرى بعد ظهر 23 أيار عام 2000.فجأة، عبقت رائحة النصر في المعتقل. وهزّت قوة جامحة متخبّطة أركانه. «مثل الحلم»، يصف الأسير المحرّر من بلدة دبين رياض كلاكش لحظة تحريره على أيدي أهالي الجنوب. سمع عبر الراديو عن تحرير بعض القرى، لكنّ «مجرّد احتمال تحرير الأسرى كان كلاماً عابراً لم نأخذه على محمل الجد». لم يصدّق الأسرى الأناشيد التي تصدح على نسق «خيبر خيبر يا يهود، جيش محمد سوف يعود»، إلى أن شاهدوا الأهالي يجتازون البوابة ويركضون في الساحة الخارجية للمعتقل بحالة هستيرية، ويهتفون: «الله أكبر»، ويضربون الأقفال بقطع الحديد و«جنوطة» السيارات بعزيمة كما لو أنهم يحطّمون الاحتلال. في ذلك الوقت، تشابكت الأيدي بين أسرى يتوقون إلى الحرية من المعتقل وأهالي مأخوذون بنشوة حرية الأرض.

هيّا بنا نهرب!
ظلّ بعض الأسرى تحت تأثير الصدمة حتى بعد فكّ قيدهم. لم يصدّق الأسير المحرر من بلدة كفركلا محمد نايف أنه صار حرّاً على أيدي الأهالي وأنّ الاحتلال هُزم وغادر المعتقل كما غادر الجنوب «من دون أي قيد أو شرط». رأى ما يحصل «فرصة للهروب من الأسر وليس تحريراً فعلياً». أثناء توزيع الطعام على الأسرى في اليوم الذي سبق، شعر بحركة غريبة في المعتقل: «قوات الأمن يحرقون الملفات، وشرطة لحد يستعجلوننا في التوزيع، وآخرون غرباء مستنفرون في باحة المعتقل». صبيحة التحرير، استيقظ الأسرى على صوت ضرب المدفعية وسمعوا عن سقوط نقاط للاحتلال. ومع ذلك، «اعتقدنا أنّ صراخ الأهالي داخل ساحة المعتقل يأتي من الحسينية المجاورة، وعندما ضربوا على الأبواب اختبأنا ظناً منا أنها عملية إعدام جماعي». وبينما كانت الجموع المتراصّة تهنّئ الأسرى المحرّرين للتو، تقبّلهم، تحضنهم تارة وتطير بهم تارة أخرى، ركض نايف «حتى وصلت إلى حسينية الخيام حيث ركن الصليب الأحمر الدولي سياراته ليقلّنا، عندها صدّقت التحرير».

الحياة من جديد
خرج الأسرى إلى النور. فتعرّفوا إلى السماء، الشمس، الهواء، القمر، النجوم، وعلى أنفسهم، ذلك أنه في غياب المرآة بقيت في أذهانهم الصورة الأخيرة عن شكلهم قبل الأسر. ولأن الزمان توقّف مع عبور بوابة المعتقل، خرجوا، فتعرّفوا إلى العالم من جديد. في الزنازين، تمسّكوا بكل أسير جديد يحمل رائحة الجنوب وأخبار أبنائه. ولأنّ الاحتلال كان يتعمّد تفرقة أبناء البلدة الواحدة في زنازينه قلّما كانت أخبار الأهل والأحبة تصلهم. بعد دخول الصليب الأحمر الدولي المعتقل عام 1995 والسماح بالزيارات، مرّر الأهل بعضاً من الأخبار، «إلا أنّ شعور تغييبنا عن العالم لم يفارقنا»، كما يقول نايف. لدى خروجه بعد ست سنوات وشهرين، مشى في شوارع كفركلا وتفقّدها زقاقا زقاقاً، وتحسّس ترابها، و«تفاجأت بموت عدد من كبار الضيعة الذين كانوا يجلسون على عتبة منزلهم».

...مع ذاكرة موجعة
تحرّر الأسرى تاركين كثيراً منهم داخل الزنازين. تركوا سنوات شبابهم وأحلامهم وصحتهم. تروي الأسيرة المحرّرة سكنة بزي من بنت جبيل ظهور آثار أربع سنوات من التعذيب والعيش في ظروف قاسية، «منذ عشر سنوات بدأت أُعاني التهابات في المفاصل وأمراض عصبية وآلام في المعدة وأكزيما». غيرها خرج عقيماً أو معوّقاً أو مريضاً جسدياً أو نفسياً. وهناك من لم يخرج حيّاً. من خرجوا من المعتقل، لم يخرج المعتقل منهم. فصارت حريّتهم مكبّلة بالذكريات. لا تنسى سكنة أيام الأسر وتمرّدها في عمر 17 عاماً على السجّان مع شابات شاركنها العيش في الزنزانة: «مريم نصار، مريم جابر، فريدة أرسلان، كفاح عفيفي، وسهى بشارة»، تذكرهم، ثم تضحك وهي تستذكر ردّها على تهديدات العملاء: «رقصنا كثيراً على الكهرباء وارتحنا كثيراً في الانفرادي، ممَّ سنخاف؟»
«الأسى ما بينتسى»، يلخّص كلاكش عناد ذاكرة تحمل معاناة 14 عاماً و4 أشهر و20 يوماً من الأسر. «كانت فترة التحقيق في السنتين الأوليين الأصعب، ولا سيّما عند الإساءة إلى أخواتي والتهديد بزجّهن في المعتقل». أما المشهد الذي «كلما ذكرته أدمعت» لحظة لقائه بشقيقه عادل بعد أربع سنوات على أسر الأخير. لم يسمح المحتل بلقاء الأخوين، وعندما التقيا صدفة لم يتعرّف أحدهما إلى الآخر لأنّ مرارة الأسر بدّلت ملامحهما. أما نايف، فلم يفارق المعتقل بعد تحريره. صار دليلاً لزوّار المعتقل اللبنانيين والأجانب حتى حرب تموز عام 2006. «مثل الشريط يكرج لهم رواية الأسر عن ظهر غيب».

عزاء التحرير
وكان التحرير عزاء الأسرى عن كل صرخة ألم وعضّة لسان وكتم نفس وإهانة وإذلال. عن مسلسل طويل من العذاب الجسدي والنفسي في غرف التحقيق ودوّامة الأسئلة وتلفيق التهم. عن أجساد متجمّدة في كنف الليل على أعمدة الساحة الخارجية. وعن معتقلين فارقوا الحياة جرّاء وحشية التعذيب. عن الصدمات الكهربائية وصبّ المياه الباردة والساخنة بعد ضرب نقاط حسّاسة في الجسم. عن مرارة الاعتقال في غرف أشبه بعلب السردين تسكنها العتمة والروائح النّتنة وصدى أصوات المعذّبين. عن ليالي الضّجر والوحدة في الغرف الانفرادية، والكوابيس المزعجة، والطعام الشحيح والرديء. عن الأصفاد التي كادت تقطع أيديهم لشدّة إحكام وثاقها. عن ذلك الكيس القماش داكن اللون ذي الرائحة الكريهة والعصبة فوقه تحجب الرؤية. عن الشوق للحياة في الخارج وأخبار الأهل والأحبة. عن حريّتهم التي سلبها المحتل بتهمة التعاون مع المقاومة، فأعادتها المقاومة وخرج الأسرى من معتقل الخيام ملوكاً تغمرهم العزة والكرامة تماماً مثلما دخلوه.