ببساطة شديدة، أصدر مجلس شورى الدولة رأياً استشارياً يخالف رأيين سبق أن أصدرهما في ما يتعلق بآلية تنفيذ قانون البطاقة التمويلية. مشروع القرار المُحوّل إلى المجلس يصر على تولّي التفتيش المركزي مهمة إدارة منصة التسجيل الخاصة بالبطاقة. ورغم خضوع القرار لتعديلات عدة أيام الحكومة السابقة والحكومة الحالية، إلا أن هذا الدور ظل عصياً على المسّ. وحده مجلس شورى الدولة وقف بالمرصاد، في الرأي الصادر في التاسع من أيلول، وفي الرأي الصادر في 21 أيلول، معتبراً أنه لا يجوز لهيئة رقابية أن تتولى مسؤولية تنفيذية. لكنّ رئيس المجلس قرّر الاستسلام في 28 أيلول، فأصدر رأياً يكرس المخالفة التي سبق أن اعترض عليها بنفسه!
خلال شهر واحد أصدر مجلس شورى الدولة ثلاثة آراء استشارية تتعلق بتحديد آلية تنفيذ قانون البطاقة التمويلية. في الرأيين الأوّليْن كان المجلس منسجماً مع نفسه، فكان الرأيان متطابقين في الإشارة إلى المخالفات التي تعتري القرار، لكنّه في الرأي الثالث قرّر الانقلاب على القانون الذي أفتى بوجوب احترامه من دون أن يتكلف عناء تبرير انقلابه.
في الرأي الأول، الصادر في 9 أيلول، أكدت الغرفة الإدارية برئاسة القاضي طلال بيضون وعضوية المستشارين سميح مدّاح وفاطمة الصايغ أنه لا يجوز أن يتولى التفتيش المركزي إدارة المنصة الخاصة بالبطاقة، انطلاقاً من أن «إنشاء منصة كهذه يندرج في إطار الأعمال التنفيذية التي تتولاها الأجهزة الإدارية التنفيذية في وزارات الدولة، فيما التفتيش المركزي يقوم بمهمة الرقابة على أعمال هذه الإدارات في معرض إنشائها منصات كهذه وقيامها بمهامّها التنفيذية بصورة عامة». وعليه، رأت الغرفة، حينها، أنه «لا يصح، في أي حال من الأحوال، أن يجمع هذا التفتيش، ودونما نص تشريعي، بين مهامّ التنفيذ والرقابة والإشراف على التنفيذ». كما اعتبرت أن «مشروع الآلية يفتقر إلى بيان السند القانوني الذي ارتكز عليه إسناد إنشاء بوابة إلكترونية إلى شركة Siren associates (تُدير منصة Impact وكُلّفت إنشاء منصة البطاقة التمويلية قبل توقيع أيّ عقد معها).
في ذلك الرأي الاستشاري لم تتوقف اعتراضات الغرفة عند دور التفتيش المركزي، بل تناولت أيضاً مخالفة المشروع، المحوّل من قبل وزير الشؤون الاجتماعية السابق رمزي مشرفية، للمادة الخامسة من قانون البطاقة التمويلية. فتلك المادة تشير بوضوح إلى أن المعايير وآلية تطبيق المشروع توضع بقرار مُشترك من قبل لجنة برئاسة رئيس مجلس الوزراء ووزراء المالية والشؤون الاجتماعية والاقتصاد، وبالتالي فإن «تحديد آلية التطبيق بموجب مرسوم يخالف قواعد الصلاحية المنصوص عنها قانوناً، ويُفترض إعمال المادة القانونية وإصدار قرار مشترك من اللجنة».
بعد تشكيل الحكومة الجديدة عولجت الثغرة التي كان فرضها وزير الاقتصاد السابق راوول نعمة على رئيس الحكومة حسان دياب كشرط لتوقيعه القرار، فأُعد قرار جديد موقّعاً حصراً من أعضاء اللجنة المحددة قانوناً، أي من قبل الرئيس نجيب ميقاتي والوزراء يوسف خليل وأمين سلام وهيكتور حجار. لكنّ الثغرة الأكبر، أي مسألة عدم جواز إدارة المنصة من قبل التفتيش المركزي، لم تُعالج، وسط إصرار على حفظ دور التفتيش المركزي، بغضّ النظر عن رأي «الشورى». وبعد تعديلات وجدت اللجنة الجديدة أن القرار يحتاج إليها، عاد وزير الشؤون الاجتماعية الحالي فأرسل المشروع المعدّل، في 20 أيلول، إلى مجلس الشورى، طالباً رأيه الاستشاري. ولأنه لم يتم الأخذ بالملاحظات السابقة، جاء الرأي، الصادر في 21 أيلول، عن الغرفة الإدارية التي ترأّسها، هذه المرة، رئيس المجلس فادي الياس (بسبب غياب القاضي المناوب يوسف نصر، بداعي الإصابة بكورونا) وعضوية المستشارين وليد جابر وباتريسيا فارس، ليكرر ما ورد في الرأي الأول. فأكد «وجوب الفصل بين الأجهزة التي تقوم بالمهامّ التنفيذية وتلك التي تقوم بالمهامّ الرقابية». وأضاف: «تطبيقاً للنصوص القانونية الصريحة التي تُحدّد طبيعة مهامّ التفتيش المركزي يقتضي توزيع الصلاحيات في ما خصّ تطبيق أحكام القانون 230/2021 على هذا الأساس، بحيث يتولى التفتيش المركزي الإشراف على أعمال أجهزة إدارية أخرى، غير محددة، في مشروع القرار المقترح، تتولى هي مهمة اتخاذ القرارات المتعلقة لتنفيذ برنامج البطاقة التمويلية، بما فيها أعمال تشغيل برنامج البطاقة التمويلية وحماية المعلومات المتعلقة بها، وتكون مرتبطة باللجنة التي أنشأها القانون وأناط بها صلاحات تنفيذ أحكامه».
رئيس مجلس الشورى يُصدر رأيين متناقضين خلال أسبوع واحد!


إضافة إلى مسألة البطاقة التمويلية، دعا «الشورى» إلى شطب ما يتعلق بالبرنامج الطارئ لشبكات الأمان الاجتماعي، لأن المادة الثامنة عشرة من القرار تنص على استخدام منصة التسجيل نفسها لاستهداف الأسر التي قد تستفيد من البرنامج، من دون أن يتم تحديد طبيعة هذا البرنامج ومصادر تمويله ومدى ارتباطه ببرنامج البطاقة التمويلية.
بعد ذلك، صارت الحكومة، أو بشكل أدقّ اللجنة الوزارية، أمام رأي ثانٍ يؤكد عدم جواز إدارة المنصة من قبل التفتيش المركزي. وعليه، كان يفترض الأخذ بملاحظات «الشورى» وإصدار القرار بما يتناسب معها، لكنّ ذلك لم يحصل. فقد أجرى وزير الشؤون الاجتماعية عدداً من التعديلات من دون الأخذ برأي «الشورى». وبالتالي، ربطاً بالرأيين السابقين، فإن مصير المشروع، في حال أُرسل إلى «الشورى»، كان معروفاً سلفاً. لكن نتيجة إصرار الحكومتين السابقة والحالية على مخالفة القانون وإلصاق مهمة تنفيذية بالتفتيش المركزي، كان الخيار بعرض الأمر على الحكومة التي يحق لها تخطي الرأي الاستشاري. علماً أن منصة Impact كانت أثارت شكوكاً عديدة حول شأن مدى أمانها. وقد صدرت، أكثر من مرة، تحذيرات أمنية من استضافة البيانات على خادم أجنبي مشبوه. كما جرى التحذير أيضاً من أن تمويل هذه النشاطات يتم عبر منظمات غير حكومية وسفارة بريطانيا (القرار الخاص بالبطاقة التمويلية يشير إلى استضافة المنصة على خوادم تابعة لأوجيرو).
لكن قبل أن يتم طرح الأمر على مجلس الوزراء، أرسل الوزير الحجار مشروع القرار المعدّل للمرة الثالثة إلى مجلس الشورى، واثقاً هذه المرة أنه سيمر، بالرغم من أن التعديلات لم تأخذ بملاحظات «الشورى». فحافظت المادة المتعلقة بالتفتيش المركزي، على دوره في الإشراف والرقابة على الشركة المتخصّصة بإنشاء وتشغيل البوابة الإلكترونية للبطاقة التمويلية. لكنّ الوزير قام بتعديل شكلي على الفقرة التي تشير إلى قيام التفتيش «بالرقابة اللازمة لإدارة البرنامج وفق المعايير التنفيذية المحددة من اللجنة»، لتصبح «القيام بالرقابة اللازمة على عمل الإدارات واللجان المتفرّعة التي تتولى تنفيذ برنامج البطاقة التمويلية…». كما لم تسحب المادة المتعلقة باستضافة برنامج الأسر الأكثر فقراً على المنصة نفسها.
لكن مع ذلك، وفيما كان يفترض أن يكون القاضي يوسف نصر هو الذي يتولى رئاسة الغرفة التي ستعرض مشروع القرار الجديد، تولى رئيس الشورى المهمة، وعقد اجتماعاً للغرفة التي ضمّت المستشارين كارل عيراني ورياض عويدات، في 28 أيلول (في اليوم الذي وصل كتاب وزير الشؤون إلى المجلس)، فتغاضى كلياً عن كل الملاحظات التي سبق أن أدلى بها المجلس مرّتين، لا في ما خص دور التفتيش المركزي (المادة 16) ولا في ما خص وجوب فصل برنامج الأسر الأكثر فقراً عن برنامج البطاقة التمويلية (المادة 18). فقط، أبدت الغرفة بعض الملاحظات الشكلية، معلنة الموافقة على مشروع القرار في حال الأخذ بها، ومنها على سبيل المثال: إضافة كلمة «قانونية» إلى جانب كلمة «الأصول»، أو استبدال عبارة «تنظم اللجنة» بعبارة «تضع اللجنة» أو استبدال كلمة «اللجنج (خطأ مطبعي) بكلمة «اللجنة»…!