استفاق ضمير المحامي الفاسد، فجأة، بعدما اصطدم بـ«المستقبل». لم يكن ترك مِن قبل شيئاً إلا وتاجر به، في القانون والأخلاق والشرف، ولكنّه الآن في لحظة عودة إلى الذات. رأى مجتمعه ينهار ووطنه بلا مستقبل. وقف أمام القاضي تائباً معترفاً، وها هو يترافع في قضيّة عادلة، بعد أن فشل في استحضار الوزراء الفاسدين إلى المحكمة، قائلاً في الختام: «سيّدي الرئيس، أنا ومعي المستقبل كلّه، نلوذ بكم ونلجأ إليكم... فأغيثونا». بكا هنا المحامي أحمد زكي. كان يدور في بال المخرج المصري الراحل، عاطف الطيّب، مِن خلال فيلمه «ضدّ الحكومة» أنّ القضاة يُمكن أن يكونوا الملاذ الأخير. كان هذا مشهد يُعبّر عن تفسّخ بنية المجتمع المصري بين الثمانينات والتسعينات. لا يوجد قضاء مستقل بالمعنى التام في العالم، اللهم إلا في خاطر بعض الحالمين، ولكن لطالما تميّز قضاة مصر بنزعة استقلاليّة لافتة. أين قضاة لبنان مِمّا يجري اليوم في بلدهم؟نادي قضاة لبنان، أو بالأحرى نادي بعض قضاة لبنان، توجّه أمس بكتاب «ثوري» إلى هيئة التحقيق الخاصّة لدى مصرف لبنان. وباسم القانون، ومواده التي يعرفونها جيّداً، طالبوا الهيئة بالآتي: «التجميد الاحترازي والمؤقت لحسابات كلّ السياسيين والموظفين الكبار والقضاة، وكلّ من يتعاطى الشأن العام وشركائهم من متعهدين وغيرهم (وعائلاتهم)... التي تتجاوز قيمتها 750 مليون ليرة لبنانيّة، فرديّاً أو مجموعة، ورفع السريّة المصرفيّة لصالح القضاء ومنع التصرّف بها». صحيح أن نادي القضاة المذكور لا يتكلّم باسم كلّ القضاة، وأنّه ليس جهة «حكوميّة» بمعنى ما، لكن مع ذلك يبقى ما طالبوا به، خاصّة أنّهم قضاة، شيئاً غير مألوف في لبنان، وشجاعة لم نعهدها كذلك في «سلك العدالة».

(مروان بوحيدر)

صحيح أنّهم لم يحددوا معيار «كبار الموظفين»، وأنّهم لم يفسّروا سبب تحديد مبلغ الحسابات التي يجب أن تُجمّد بـ 750 مليون ليرة وما فوق، إلا أنّ رمزيّة الطلب تبقى لافتة ويُمكن البناء عليها. ذهب النادي في كتابه أبعد مِما سلف، إذ طالب بـ«التحقيق مع أصحاب هذه الحسابات حول مصادر هذه الأموال، وطبيعة العمليات المجراة فيها... ومخابرة السلطات الأجنبيّة كافة والمطالبة بمعلومات حول حسابات السياسيين والموظفين الكبار (وعائلاتهم) في الخارج». ختم كتاب القضاة بالآتي: «إن أحقر الناس من ازدهرت أحوالهم حين جاعت أوطانهم، الوطن يُنادي ضمائركم». هكذا، لبنان في حالة انتفاضة، حالة استثنائيّة، وهنا تكثر المواقف الاستثنائيّة.
إلى هنا كلّ ما سلف جيّد. لكن مهلاً، ألسنا هنا في لبنان؟ أليس القضاة، ومنهم أعضاء في النادي المذكور، مَن جرى تعيينهم في مواقعهم، بحسب آخر تشكيلات قضائيّة، بموافقة ومباركة وتزكية مِن هذا الزعيم (طائفيّاً) أو ذاك؟ بلى. نعرف هذا جيّداً. نعرف الأسماء والماضي والحاضر، وما خفي أكثر. نعرف ميول بعض القضاة، الكثير مِن القضاة، إلى الجهات الحزبيّة صاحبة «الفضل» في وصولهم إلى ما وصلوا إليه. لا حاجة لأن نُردد تلك المقولة اللزجة عن أنّ ليس كلّ القضاة في الفساد سواء، وأنّ منهم مَن تُرفع له القبعة، إلخ إلخ... نعرف هذه البديهيّة جيّدا أيضاً. في مصر، ورغم شبه الانهيار الذي تعيشه الدولة هناك، بما في ذلك قطاع العدالة الذي أمعن فيه التسييس، إلا أنّه مع ذلك يبقى أفضل مِن الوضع القضائي في لبنان. لا دولة أعقد مِن لبنان. خلال الأيام الماضية، ظهرت بيانات تطالب بحكومة انتقالية في لبنان، يترأسها قضاة مشهود لهم بالنزاهة. بدت هذه الدعوة أقرب إلى الأمنية. في لبنان كلّ القضاة مشهود لهم بالنزاهة، وكلّهم مشهود لهم بعدم النزاهة أيضاً، ذلك بحسب الجهة (طائفيّاً وحزبيّاً ومناطقيّاً) التي تستصرحها حول ذلك. حتى هذه الأمنيّة ليس لنا أن نهدف إليها هنا. ليس القضاء في لبنان، كمنظومة متكاملة، سوى أحد أسباب نفور الناس مِن كلّ ما يمتّ إلى الدولة بصلة. حتى العدالة، ولو بمعناها الضيّق، ليس متاحة في بلادنا... بلاد الواسطة والمحسوبيّة الزبائنيّة.
دعا نادي القضاة إلى تجميد حسابات كلّ السياسيين والموظفين الكبار والقضاة


لم يكن بيان القضاة أمس هو الأول من نوعه، فيوم الجمعة الماضي، ومع انطلاق التظاهرات في مختلف المناطق، صدر عن «النادي» بيان دعا إلى «تنحّي كل مسؤول مساهم في الفساد، واستقالة الحكومة والمجلس النيابي وإجراء انتخابات تمتحن جدية صحوة المواطن». كم يبدو هذا حالماً. انتخابات؟ وفق أي قانون انتخابي؟ لم يتطرق البيان إلى ذلك. عموميات بعموميات. مشكورة هي «ثوريّة» نادي القضاة، ومشكورة الشجاعة، لهم الشكر على جعلنا نسمع مِنهم أشياء لم نكن نسمعها مِن قضاة سابقاً، لكن، رأفة بنا، رأفة بكلّ ما ينبغي الرأفة به، كونوا حقيقيين أكثر. كونوا في الواجهة. سمّوا مع الناس الأشياء بأسمائها. بينكم مَن يعرف أشياء لا يعرفها كثيرون، ولديكم، بين الأوراق في مكاتبكم، ما لو كشفتم عنه لغيّرتم الكثير في المشهد. انزلوا مثلاً إلى الشارع، بأثوابكم إيّاها، واطلقوا الصرخات مِن بين الناس. عندها ربّما سينظر الناس إليكم بعين مختلفة، ربّما.