لنفترض أن اسمه محمود. محمود أب لثلاثة أولاد. عاطل عن العمل منذ أكثر من عام. يأكل بالدين ويطعم أطفاله بالدين، منتظراً الفرج. الفرج، بالنسبة له، قد يأتي على شكل وظيفة بـ500 دولار في الشهر، لكنه لم يأت. محمود هو أيضاً شاب «مسيّس»، وقد بنى خلال سنوات خلت وعياً جعله يسلّم أن من يحكمون البلد «ليسوا سوى لصوص»، وأن وجودهم في السلطة يقضي على أي أمل بحياة أفضل. مساء الخميس كان في الصف الأول في تظاهرة رياض الصلح. صرخ وردّد الشعارات المناهضة للحكومة. رفع قبضته عالياً معبّراً عن كل ما يعتمل في صدره من غضب. عند منتصف الليل ومع اشتداد التوتر، كانت العبوات الفارغة تملأ السماء، وكانت تطير ذهاباً وإياباً. السباب كان يتطاير في الاتجاهين أيضاً. قد يكون مفهوماً أن يغضب المتظاهرون وأن يعبّروا بشتى الطرق، أسوة بما يحصل في أي مكان في العالم، لكن ليس مفهوماً لماذا يغضب رجل أمن متمرس، يفترض أن يكون مدرباً على التعامل مع هكذا ظروف. أسوأ تبرير يُقدّم هو ذلك الذي يقول «سبوا عرضه» كما لو أنهم يعرفونه شخصياً أو يحملون تجاهه ثأراً قديماً. يا عزيزي إن كانت هرموناتك القبلية أو الذكورية متفاقمة إلى هذا الحد لما لا تطلب إعفاءك من مهمة لست أهلاً لها؟
فات الأوان في تلك اللحظة. وقد صدر القرار الأحب على قلب كثر من طينة «الحمشين»: تفريق التظاهرة بالقوة. كان محمود في ذلك الوقت، على ما يقول، يعمل على تهدئة المتظاهرين والدرك على السواء. هو إذ يعتبر أن العنف هو حق للثائرين، لكنه في تلك اللحظة اعتبر أن العنف سيجر عنفاً أكبر على المتظاهرين، وقد وجد بينهم كثيرين من صغار السن. قد يكون قوله صحيحاً وقد لا يكون، لكن الأكيد أنه كان أحد الذين أصيبوا بقنبلة مسيلة للدموع في ظهره. تلك تثبت أن وجهه كان للمتظاهرين. لا يهم. بالنتيجة. وقع أرضاً، فيما كانت حالات الإغماء تطال كثراً بعدما لم تميّز القنابل الطائرة من مسافة بعيدة خلف حاجز الحماية، بين متظاهر ورجل أمن أو عسكري. تفرّق الجميع، على وقع استمرار الهجوم الدخاني وضرب الهراوات. ما هي إلا دقائق حتى سلّم المتظاهرون بالأمر الواقع، ففرغت الساحة. في تلك اللحظة وبينما كان محمود يغادر وحيداً من ناحية شارع المصارف، تقدّم منه عنصر أمن، ليسأله: أنتم تدفعون راتبنا؟! هنا، قد يصعب معرفة ما استفز الأمني من عبارة صحيحة رددها المتظاهرون. فات الأوان. المهم أنه انفجر غضباً، وبدأ بضرب محمود. «الكف» الأول يجذب «كفوفاً» كثيرة. وجد محمود نفسه في ثوان وسط دائرة تمتهن الضرب، قبل أن يُسحب باتجاه السرايا، حيث يتم تجميع «الأشرار»، كارهي الدولة ومحتقري النظام وممتهني القدح والذم. تلك جريمة وقد ضُبط منفذوها بالجرم المشهود. الوجه إلى الأسفل واليدان مخفورتين إلى الخلف، و«الرينجر» لا يميز بين رأس وظهر ورجل ويد. كل شيء مباح في هذه اللحظات، تحت تأثير الغضب والاستفراد بالضحية. للعلم نادراً ما يوقف متظاهر أمام الإعلام. كلما ظهرت كاميرا أُنقذ«مجرم»، وكلما اختفت كاميرا زاد إجرام الدولة. تلك معادلة معتمدة على الأرجح.
أمام السرايا، وإلى جانب الضرب المبرح، كان محمود يُذّل ويهان ويسّب بشتى أنواع السباب، لكن لا بأس فرجل الأمن «معصّب»، ولأنه الأقوى يحق له ما لا يحق للمتظاهر. سيارة النقل المعتمدة في ذلك الوقت كانت تتسع لعشرة أشخاص في الخلف. وعلى طريقة السرفيسات، لن تغادر قبل أن تمتلئ. «الله جبر». وصل عدد «الركاب» إلى العشرة وانطلقت باتجاه ثكنة الحلو. في السيارة، أدرك محمود أن وضعه أفضل من غيره، بالرغم من كل الكدمات والجروح التي تعرض لها. آخرون كانت الدماء تسيل من رؤوسهم وكسرت أضلعهم من جراء ما تعرضوا له من ضرب. ما هو دور العلاقات العامة في قوى الأمن الداخلي في هكذا ظروف؟ بحسب صفحتها الرسمية على فيسبوك، فإنها تنهمك في عدّ المصابين من العسكريين، مقابل إظهار شراسة المتظاهرين واعتداءاتهم على الممتلكات العامة والخاصة. أكثر من ذلك، كم جميل ومؤثر ذلك المقطع المصوّر الذي نُشر، ويظهر فيه عناصر يناولون المياه لعدد من الصبية المفزوعين.
كان المحقق رؤوفاً وحتى مشجعاً على التظاهر في وجه الطبقة الفاسدة


وصل العشرة إلى ثكنة الحلو، كما وصل غيرهم. هناك فقط توقّف الضرب. اتصل المناوبون في المخفر بالصليب الأحمر لإسعاف المصابين. وقد تبين أن 4 حالات استدعت النقل إلى المستشفى، فيما الحالات الأخرى أجريت لها إسعافات أولوية، قبل الدخول إلى النظارة. هؤلاء، جرّبوا ما يعانيه الموقوفون في نظارات لبنان. اكتظاظ كبير وعدم قدرة على النوم إلا «فوق بعض أو عَ القاعد». لم يُسأل أحد عما فعله. كان المحقق رؤوفاً ومدركاً لما يجري، وحتى مشجعاً على التظاهر في وجه الطبقة الفاسدة. فتح المحضر وكتب لوحده: «أنا مواطن لبناني تعبت من الأوضاع الصعبة ونزلت لأتظاهر سلمياً. وبالرغم من أنه كان يوجد مشاغبون إلا أنني لم أفعل شيئاً... وقد تعرضت للضرب».
صحيح أن المحقق كان لطيفاً، على ما يؤكد محمود، لكن هذا اللطف لم يصل إلى حد السماح للمعتقلين بالاتصال بأهلهم الذين يبحثون عن أولادهم في المستشفيات والمخافر. محظوظ من اتصل بثكنة الحلو. عندها فقط أدرك أن ابنه معتقل. للمناسبة لا طعام في الزنزانة، ومن يرد أن يأكل عليه أن يطلب الطعام من الخارج، وعلى نفقته. أما من لا يملك المال، فسيجد حكماً الكثير من رفاق الزنزانة الذين يطلبون الطعام للجميع.
يوم الجمعة أُخذت بصمات المعتقلين، وصُوّروا حاملين لتلك اللافتة الشهيرة التي يُكتب عليها رقم ما. هنا كتب الرقم والاسم معاً. لكن صاحب الصورة لم يبتسم. تعرّض لضرب مبرح، لم تزل آثاره بعد. وبعدما كانت كل الإشارات داخل الزنزانة تشير إلى أن لا إطلاق سراح قبل الاثنين (تردد بين الموقوفين أن قوى الأمن لن تطلق سراحهم حتى تخفّ التورمات والكدمات)، فعلت تحركات الأهالي فعلها أمس، خاصة بعدما اعتصموا أمام مدخل الثكنة. عندها اضطرت قوى الأمن لإطلاق سراح المعتقلين بسند إقامة. وقد «عادوا جميعاً إلى رياض الصلح».