كأي انتخابات نيابية عامة، يخرج منتصرون وخاسرون. يخرج أيضاً نصف منتصرين ونصف خاسرين. ذلك ما يصحّ على الاستحقاق الأخير الذي أعاد تأكيد مواقع الكتل الرئيسية، المستمرة منذ انتخابات 1992 وتلك المنبثقة من انتخابات 2005، وإن باحجام متفاوتة. لا تفقد نصف المهزومة دورها المؤثر، ولا تُمنح تلك المنتصرة أكبر من حجمها في توازنات داخلية دقيقة باتت مدروسة، وملزمة للجميع. بيد أن ملاحظات أولى مستمدة من نتائج الاقتراع، بإزاء الكتل الرئيسية، تفضي إلى:
1 ـ أضحت كتلتا الثنائي (حزب الله وحركة أمل) تمثلان التكتل النيابي الأكبر بـ30 مقعداً، مع فقدان تيار المستقبل هذا الامتياز الذي حافظ عليه في انتخابات 2005 و2009 وقارب 34 نائباً. مع ذلك، على رغم التماسك المتين بين فريقي الثنائي أبرزت انتخابات البقاع الشمالي والجنوب صلابته، إلا أن الموقف من رئيس الجمهورية ميشال عون يباعد إلى حدّ بين بري وحزب الله، خصوصاً بإزاء التساهل والتغاضي الذي يبديه الحزب ـــ كرمى للرئيس ـــ بإزاء مغالاة الوزير جبران باسيل في التصرّف، ووضع اليد على قرارات وفيرة في مجلس الوزراء وخارجه، كما لو أنه الرئيس الظل.
قد يكون الثنائي الشيعي الفريق الوحيد في البرلمان الجديد، القادر على استقطاب حلفاء وأصدقاء إليه، في وقت صار يتعذّر على تيار المستقبل وحزب القوات اللبنانية والتيار الوطني الحرّ وحلفائه والنائب وليد جنبلاط الاضطلاع بوظيفة مماثلة تحت عبء نزاعات بعضهم مع بعض. خرج تيار المستقبل منهكاً يفاوض بضعف. وحزب القوات اللبنانية قوياً يفاوض بشروط. والتيار الوطني الحرّ أكثر غطرسة في رفض الآخرين كجنبلاط والنائب سليمان فرنجيه، على طرف نقيض متصاعد بلا توقف مع سمير جعجع، وغير قادر في الوقت نفسه على حمل وزر ضعف حليفه رئيس الحكومة سعد الحريري الذي يشكو بدوره من ابتعاد جنبلاط وجعجع عنه أو ابتعاده هو بالذات عنهما.
يستمد الثنائي الشيعي قوته في الاستقطاب من كونه خاض انتخابات 2018 على أرضه بلا منافسة تقريباً، وعلى أرض الآخرين مباشرة وعبر حلفاء نجحوا. من دون أن يجهر بذلك علناً، يؤهّله هذا الواقع ـــ مع حلفائه بمن فيهم التيار الوطني الحرّ ـــ للوصول إلى أكثر من نصاب النصف زائداً واحداً. مع ذلك، بدّد الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله، البارحة، هذه المخارف ـــ وقد رافقت الحملات الانتخابية ـــ كي يوجّه مغزى التكتل الكبير الذي يقوده الثنائي الشيعي، وهو حماية المقاومة كخيار استراتيجي، ناهيك بتكريس ثلاثية الجيش والمقاومة والشعب. بات ثمة مَن يقول بهما من الآن فصاعداً، داخل مجلس النواب وخارجه، في طرابلس والضنية والبقاع الغربي وبيروت وصيدا وفي أقضية الشمال المسيحي.
2 ـــ لا ريب في أن ثمة أفرقاء تغذّوا من عداء باسيل لهم، فكبرت حصصهم المباشرة أو بالتحالف مع آخرين كتيار المردة والحزب التقدمي الاشتراكي وحزب القوات اللبنانية، في وقت خسر باسيل حلفاء له راهن على قوتهم كتيار المستقبل. ومع أن حساباً كهذا لا يُصوّب إلى رئيس الجمهورية مباشرة، إلا أنه سيعني حتماً أن المهمة المقبلة لباسيل ـ ما دام يقدّم نفسه في صورة ولي العهد ــــ ستكون شاقة في التعامل مع خصومه، من غير أن يُعطى ظهيراً قوياً كالذي مثله له الحريري في سنة ونصف سنة من ولاية العهد. سيجد الخصوم هؤلاء ملاذاً لدى برّي، من غير أن يتوقعوا أن يكون حزب الله مناوئاً لهم، وبينهم حلفاء وطيدون له.
الحريري الأول، لكن على نصف الشارع السنّي فقط


وفي وقت يتصرّف رئيس الجمهورية على أنه وعاء يستوعب الأفرقاء جميعاً ومنفتحاً عليهم وإن هو يرأس رمزياً الحزب الحاكم، يحوط رئيس هذا الحزب نفسه، صهر الرئيس، بكمّ لا يستهان به من الخصوم تارة والأعداء طوراً على نحو لم يسبقه إليه أحد من قبل، في تجربة سياسية في السلطة بالكاد عمرها عشر سنوات.
3 ـــ مع أن الحريري قلل أمس من وطأة الخسارة التي جبهها في الشارع السنّي، بيد أن الرجل يسعه القول إنه لا يزال الزعيم الأول للسنّة من دون أن يكون وحده زعيمه، ولا على كل الشارع السنّي. للمرة الأولى منذ انتخابات 2005 و2009، يفقد في وقت واحد نصف بيروت ونصف طرابلس ونصف صيدا ونصف البقاع الغربي، وإن هو بالغ في القول إنه الرابح الأكبر في عكار. منطقة لم تشكّل مرة ـ كالعاصمة الأولى والثانية والثالثة ـــ موطئ قدم للقرار السياسي. عُدّت عكار على الدوام، منذ انتخابات 2005 ـــ وهو ما لم يُعطَ يوماً للرئيس رفيق الحريري ـــ على أنها خزان ناخبيه ليس إلا تحت لافتة اغتيال الأب الراحل.
صحيح أن الحريري وحده يملك النصف الأول قياساً بخصومه السنّة الآخرين (الرئيس نجيب ميقاتي والنواب عبدالرحيم مراد وأسامة سعد وفيصل كرامي وجهاد الصمد وعدنان طرابلسي) انتزعوا النصف الثاني منه بالمفرّق، ويسعه تالياً القول إنه أولهم. بيد أن الواقع يدّل على أن الرجل يمثل النصف ليس إلا. أول تداعيات هذا الفارق ــــ وهذا الثمن السياسي خصوصاً ــــ سيخبره الحريري عند تأليفه الحكومة الجديدة. لن يكون له مذذاك أن يسمّي وحده الوزراء السنّة فيها.