كما في كسروان ــ جبيل، كذلك في المتن الشمالي. يسير التيار الوطني الحر وفق استراتيجية انتخابية واضحة المعالم تقوم على الأرقام. في المرحلة الأولى، أجرت الماكينة الانتخابية دراسات دقيقة حول نسبة الناخبين التي يمكن التيار أن يحصل عليها بنفسه. وعلى هذا الأساس جرى ترشيح الحزبيين؛ مرشح لكل مقعد مضمون حتى لا تتشتت الأصوات وتضيع المقاعد. ووفق الحسابات، يقدر ربح التيار في المتن بحاصلين ونصف الحاصل، أي ما يعادل ثلاثة مقاعد من أصل ثمانية. لذلك، تبنى التيار أقوى ثلاثة مرشحين في طوائفهم: إبراهيم كنعان عن المقعد الماروني، الياس بو صعب عن المقعد الأرثوذكسي وإدغار معلوف عن المقعد الكاثوليكي، إضافة إلى مرشح حزب الطاشناق هاغوب بقرادونيان الذي سيؤمن أصواته بنفسه. في المرحلة الثانية، أجرى التيار مسحاً جدياً لمرشحي القضاء «المستقلين»، وغربل الأسماء القوية التي يحتمل أن تخرق، ليبدأ العمل على استمالة كل اسم على حدة. الهدف هنا واضح: تجريد لوائح الخصوم من المرشحين الأقوياء تمهيداً لفرط لوائحهم، وهو ما جرى فعلياً في لائحة النائب ميشال المر، إذ سُحب المرشحون الذين يمون عليهم التيار أمثال جان أبو جودة، ثم المرشحَين اللذين كان يعوّل عليهما «أبو الياس»، سركيس سركيس وكورين الأشقر. هكذا اكتملت لائحة التيار الوطني الحر الذي كان قد أنجز اتفاقاً مع الحزب السوري القومي الاجتماعي يقضي بتبني مرشحه غسان الأشقر.
لا يختلف سركيس عن افرام وصوايا وغيرهما سوى أنه مرشح بلا بزة رسمية

هكذا ضعضع التيار لائحة المر، وجعل من تشكيلها أمراً شبه مستحيل، ومن احتمال فوز الأخير مهمة شاقة، فيما ضاعف فرص النائب غسان مخيبر بالفوز. على المقلب الآخر، لم يشدّ العونيون على يدّ القواتيين في موضوع التحالف، وكان أن أيّدوا سريعاً فكرة الأمينة العامة للقوات شانتال سركيس بتشكيل لائحة مستقلة، لاعتقادها أن الحاصل مضمون في الجيب. فيما تشير الدراسات العونية إلى أن القوات قد تلامس الحاصل، ولكنها لن تحصل عليه. أما الكتائب، فيتوقع أن يفوز بمقعدين. وبذلك يكون التيار قد ضاعف ربحه من ثلاثة مقاعد إلى احتمال فوز مرشحين من لائحته.

مرشح بلا ربطة عنق
قد يكون ما سبق ضرباً من الذكاء، إلا أنه يحمل عدة علامات استفهام حول تقريشه سياسياً. ففي مقابل توسيع تكتل التغيير والإصلاح، تبرز مشكلة خط «المستقلين» السياسي ونهجهم الخدماتي الذي يتعارض والمبادئ التي قام عليها شعار «التغيير والإصلاح». كان العونيون يخوضون معاركهم الرئيسية في وجه سركيس سركيس وما يمثله أو نعمة افرام وما يمثله أو منصور البون وغيره. فكيف سيبررون اليوم التحالف مع هؤلاء وضمهم إلى كتلتهم؟ وكيف سيبررون «شعبية» هؤلاء المرشحين القائمة على الزبائنية في حين أنهم رأس حربة مواجهة هذا النهج ويدعون عند كل محطة إلى تفعيل دور الدولة ومؤسساتها؟ وأين الهوية السياسية الجامعة لتكتل التغيير والإصلاح؟
ليست المشكلة هنا في سركيس كرجل أعمال يمكنه خدمة قاصديه ودعم بعض المشاريع التي لا تجد من ينفذها. فسركيس لا يختلف فعلياً عن نعمة افرام في كسروان، ولا عن المرشح جاد صوايا في جزين. الكل هنا في الخانة نفسها باستثناء أن هؤلاء مرشحون بربطة عنق يهتمون برشاقتهم ويعتنون بشعرهم، وهو يرتدي قميصاً بلا كُمَّين ويطلق شاربيه. ولا يتوقع منه أكثر مما يتوقع منهم، إن في التشريع أو في الخطاب السياسي؛ علماً أن سركيس لم يعمد يوماً إلى التذاكي في السياسة، فاختار الصمت، في حين أنّ غيره لا يتوانى عن نشر «ثقافته» يومياً.
في المنظار العوني، الصورة واضحة: «جربنا نموذج سليم سلهب، الكتلوي السابق والطبيب الناجح، لمدة 12 عاماً. لم تكن تجربة باهرة، ولا رغب هو في أن يكملها، لذلك لا ضير من منح غيره فرصة، ولا سيما أن هؤلاء تابعوا خدمة المتنيين حتى حين سقطوا في الانتخابات السابقة. وزن سركيس اليوم في المتن يقارب ثلاثة آلاف صوت».

بو صعب «يحارب» نفسه
لكورين الأشقر قصة أخرى. لا زوجها سياسي، ولا هي إعلامية أو وجه معروف، لكن بالمقارنة مع المتنيات المرشحات، يمكن اعتبارها الأكثر جدية بينهن. فالأخيرة تدير منذ أعوام عمل والدها رئيس بلدية ضبيه قبلان الأشقر. ولمنزلهم تاريخ في العمل السياسي يفوق الخمسين عاماً. علماً أن والدها، صديق القوميين، ولطالما كان يشغّل ماكينته الخاصة لمصلحة مرشحهم. غير أن الابنة لم تنتمِ يوماً إلى الحزب القومي، ولا تبنت أفكاره، على ما يقول عارفوها. ترشيحها «يوحِّد آل الأشقر ويضمن أصوات بلدة ضبيه وبعض العائلات التي تربطها مع رئيس البلدية مصالح تجارية». فور حسم أمر كورين، بدأ الكتائبيون حملة على اللائحة العونية، على اعتبار أنها باتت قومية أكثر منها عونية، عبر ضمها لثلاثة مرشحين يدورون في فلك حزب سعادة: مرشح القومي غسان الأشقر وكورين والوزير السابق الياس بو صعب. غير أن ذلك لم يمنع الكتائب منذ عامين من التحالف معها ومع والدها في الانتخابات البلدية. فالمجلس البلدي الذي يرأسه قبلان الأشقر في ضبيه اليوم يضم حصة كتائبية وازنة.
من جهة أخرى، كان الاعتقاد أن بو صعب يعمل ليحلّ أولاً في الأصوات التفضيلية، إلا أن تحركه على خطّ ضمّ كورين (تجمعه بها علاقة عائلية) وسركيس إلى اللائحة وقبلها صديقه القومي فادي عبود يؤكد العكس. ففعلياً، ليس من مصلحة وزير التربية السابق الترشح على لائحة فيها ثلاثة مرشحين يسحبون منه الأصوات فيما كان يمكنه الاستفادة منهم لزيادة رصيده الخاص. وستثبت الانتخابات المقبلة ما إذا كانت «شعبية» بو صعب مبنية على أسس متينة أو افتراضية لا تتعدى وسائل التواصل الاجتماعي، علماً أنه ينافس في الاستطلاعات على المركز الأول متنيا. أما إعادة ترشيح النائب غسان مخيبر، فتُعَدّ خياراً صائباً لتمايز الأخير في المجال التشريعي. ومخيبر واضح منذ دخوله المعترك السياسي برفضه سياسة الخدمات الشخصية.

انفصام سياسي
كاثوليكياً، رشح التيار شاباً حزبياً كان عضواً في هيئة القضاء، وأسّس هيئة حزبية في بلدته، وقد أرضى بذلك الحزبيين المتعطشين إلى إيصال وجه يشبههم. فيما فرض النائب إبراهيم كنعان نفسه بنفسه، على اعتبار أنه الأول في جميع الاستطلاعات بين الخصوم والحلفاء، والأكثر حضوراً خدماتياً وتشريعياً وسياسياً. من جهة أخرى، يبدو التحالف مع القومي نوعاً من الانفصام السياسي الذي يعاني منه الحزبان على حدّ سواء (كما باقي الأحزاب في ظل النسبية). فكلاهما يتواجهان في لائحتين مختلفتين في كل من دائرة الشمال الثالثة وبعلبك ــ الهرمل ومرجعيون ــ حاصبيا. كذلك يحاول التيار إطاحة مرشح القومي في بيروت الثانية عن المقعد الإنجيلي ليثبت مرشحه مكانه. لذلك يصعب فهم أسس التفاهم في المتن الشمالي المبنية على تنافس في عدد من الدوائر الأخرى، وذلك على عكس التفاهم مع الطاشناق الذي يبدأ من المتن الشمالي ويمرّ ببيروت الأولى ليصل إلى زحلة. هناك من العونيين من يفسر ما سبق بالآتي: «لا ترف في القانون النسبي، الأولوية للربح، والسياسة تأتي في مرحلة ثانية. فليس شرطاً أن يكون تكتل التغيير والإصلاح من لون واحد، ولنا تجربة ناجحة في هذا المجال. المهم أن المظلة برتقالية».