كان لا بدّ من أن ننتظر أسبوعاً كاملاً بعد قرار ترامب نقل سفارة الولايات المتحدة إلى القدس المحتلّة، لنتوصّل إلى اكتشافات مذهلة. لقد أجمعت الأنظمة العربيّة والإسلاميّة على حب فلسطين ـــ وهو إنجاز استراتيجي بحدّ ذاته ـــ وأجمعت بالتصميم والعزيمة إيّاهما على التمسّك بالقدس (الشرقية فقط) عاصمة لدولة غامضة، يسمونها «فلسطين»، بلا أسس قانونيّة واقتصاديّة وعسكريّة ووطنيّة، «دولة» تضيق بالجزء الأعظم من شعبها المشرّد في أربعة أقطار الأرض. شكراً لـ«قمة منظمة التعاون الإسلامي في إسطنبول» على هذا الإنجاز الخطير الذي ارتعدت له فرائص بني صهيون، واهتزّ كيان الاستعمار الأميركي، حتّى دخلَ الكاوبوي المعتوه في حالة من الإحباط وندم على فعلته.
كما كان متوقّعاً، وكما استشرف إعلام العدو تحديداً، فقد تمخّض جبل الغضب العربي ــ الإسلامي (الرسمي) عن فأرة. قبل يومين كان وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو نفسه يشكو من «ردّ الفعل (العربي) الضعيف»، ولا نظنّ أنّه غيّر رأيه وهو يستمع إلى خطابات إنشائيّة محشوّة بالأدبيات المستهلكة منذ سبعين عاماً، لا تترافق مع أدنى إجراء عملي، وإلى بيان نهائي توفيقي خجول، لا يلوّح بأيّة خطوات عمليّة من شأنها أن تشكّل ردّاً حقيقياً على الحقارة الأميركيّة. «ربما لا يريدون أن يزعّلوا أميركا» دسّ تشاووش أوغلو بخبث، قبل القمّة. صحيح! فهل بلاده ـــ رغم النبرة الاحتجاجيّة العالية التي تميّزت بها وأعطت للطوباويين بيننا بعضاً من أمل ـــ من شأنها أن تفعل؟ وإلى أي حد؟
القمّة التي شهدتها إسطنبول، تشبه للأسف مسرحيّة تراجيكوميديّة، نعرف سلفاً أحداثها الكاريكاتورية، ومواقفها المضخّمة، ونعرف بالضبط ما ستقول شخصياتها وتفعل، ونعرف خاتمتها المضحكة ـــ المبكية. ممثلو 48 دولة، بينهم 16 رئيس وملك وأمير ورئيس حكومة، لا يملكون مجتمعين أدنى جرأة على تحدي إسرائيل وتهديدها. في عاصمة الخلافة العثمانيّة، سمعنا جعجعة لكنّنا، على الأرجح، لن نرى طحناً. الرئيس التركي إردوغان، وهو الرئيس الدوري لـ«منظمة التعاون الإسلامي»، بدا «واكل الجوّ» بمبادرته المشكورة، وبعنتريّاته «التي ما قتلت ذبابة» بتعبير نزار قباني. وقف يطالب بالقدس، ودماء «الربيع» السوري لما تجفّ عن يديه، وكذلك مداد اتفاقات التعاون العسكريّة والاقتصاديّة التي وقّعها وسيوقّعها مع العدو الإسرائيلي.
العاهل الأردني عبد الله رأى بعقله الاستراتيجي أن «الخطوة الأميركية تهدد الأمن والاستقرار في المنطقة». الرئيس المصري لم يجد وقتاً للحضور، فهو ساهر على منع شعبه من النزول إلى الشارع، ومحاكمة الذين نزلوا إلى التظاهرات الماضية. سنقفز فوق السعودية طبعاً. لقد بخلت علينا حتى بالجبير.
اتركوا السعودية، فوليّ العهد الألمعي يحلّ هذه المشكلة العرضيّة مباشرة، إذا أراد، مع صديقه الحميم جاريد كوشنر. ثم إن القمم لا تلذ إلا في الرياض كي يرقص ترامب العرضة. أو في القاهرة لإعلان الحرب على المقاومة. وإذا كنتم تملكون للسرّ مطرحاً، فإن المملكة غير مهتمّة كثيراً هذه الأيام بثالث الحرمين الشريفين، فليأخذه إخوتنا اليهود: عربوناً عن حبّنا وتمسكنا بـ«حوار الأديان». لديهم أمور أخطر وأهم: الجميع في مملكة الخير، منهمك هذه الأيّام ببناء المجتمع الحديث، المنفتح، الذي يشتمل حتّى على دور سينما (!)، وذلك من ضمن احتفاليّة كبرى بـ«صفقة القرن» مع إسرائيل.
وأبو مازن؟ هل تسألون عن القائد الثوري أبو مازن؟ لا طبعاً كان موجوداً، وقال بالفم الملآن إن «واشنطن تجاوزت الخطوط الحمر بشأن القدس»! لكن ماذا عساه يفعل ليقاصصها؟ العين بصيرة، واليد قصيرة! يعرف أن الأخ الأكبر قادر على إلغاء «زعامته» بكبسة زر، واستبداله بالدحلان أو بسواه. من هناك تأتي «سلطته»، وشرعيّة وجوده. تلك عبقريّة «أوسلو» وإنجازاتها العظيمة التي تُوّجت أخيراً بمصادرة القدس. ثم إن أبو مازن المسكين منهمك كثيراً، في كل الأحوال... منذ أسبوع، لم يجد حتّى وقتاً كي يزور شعبه في «فلسطين». ماذا تراه يفعل لكل هؤلاء الذين يصرخون في الشارع، ويطالبون بحقوقهم وكرامتهم وأرضهم وتاريخهم وقدسهم، ويسقطون ويستشهدون ويعتقلون بالمئات في الضفّة والقطاع والقدس وسائر أنحاء الوطن المسلوب؟ هو على الأقل يتركهم يتظاهرون كأي حاكم ديمقراطي.
لكن قمة إسطنبول تعتذر منكم عن عدم فرض عقوبات على كيان العدو، أو على أميركا، كما يحلم بعض المتطرفين والإرهابيين. ثم ما الضرورة لإقفال السفارات الأميركيّة في الـ49 عاصمة؟ بل حتى ما الحاجة إلى مجرّد استدعاء السفراء في تلك الدول العربية والإسلاميّة؟ طيب يا سيدي بلاش، أقفلوا سفارات العدو الإسرائيلي في دول التطبيع، على أساس أن اتفاقيات السلام سقطت مع القدس... لا، لا، الخطابات تكفي، والبيان ضربة قاصمة لأميركا: لقد دعا العالم إلى «الاعتراف بدولة فلسطين وبالقدس الشرقية المحتلة عاصمة لها». واعتبر أن قرار ترامب «يصبّ في مصلحة التطرف والإرهاب ويهدد السلم والأمن الدوليين». وزمجر: «نعقد العزم على مواجهة أي خطوات من شأنها المساس بالوضع القائم التاريخي أو القانوني أو الديني أو السياسي لمدينة القدس»! أما زلتم قلقون على مصير القدس، وقضيّة فلسطين؟
في الحقيقة لن يبقى من تلك القمّة المخزية، إلا الصورة التذكاريّة... ورد فعل رئيس وزراء العدو الذي تلقف البيان بتحيّة خاصة. قال إنّه «ليس منبهراً». أتحداكم أن تُبهروا بيبي! الرجل واثق من جبروت زعماء العرب والمسلمين مجتمعين. الحل الأفضل حسب قوله «أن يقبل الفلسطينيون بالأمر الواقع»... ونستريح جميعاً! إن قمّة كهذه، تستحق مثل تلك التحيّة! في هذه الأثناء الشعب الفلسطيني يقف وحيداً، متروكاً لمصيره. ها هو للمرّة المليون، يواجه لعنات التاريخ وحيداً. كما في قصيدة درويش الشهيرة: «ومن الخليج إلى المحيط، ومن المحيط إلى الخليج/ كانوا يعدّون الجنازة/ وانتخاب المقصلة».