الطريق إلى القدس تمر بعوكر... لا أحد يملك الحق في أن يحاجج المئات الذين تقاطروا صباح، أمس، على دفعات لنصرة القدس على أبواب السفارة الأميركية. فالرسالة، هذه المرة، لا بد من أن تكون مباشرة، سواء عبر الشاشات العربية والأجنبية، أو عبر برقيات دبلوماسية، لا شك أنها طارت من أحد المكاتب، باتجاه وزارة الخارجية، ومنها إلى سيد البيت الأبيض المغرور.
حتى أهالي البلدة المتنية الذين حلّت عليهم «لعنة» السفارة الأميركية منذ تفجير المقر الأساسي في بيروت في ثمانينيات القرن المنصرم، بدوا أمس أكثر تفهماً للتظاهرة التي دعت إليها القوى الوطنية اللبنانية والفلسطينية، قياساً إلى تظاهرات سابقة كانت الشتائم تنهال فيها على «الزعران» في كل مرة كانوا يصوّبون فيها بوصلة تحركهم نحو «الشيطان الأكبر» القابع عند إحدى تلال عوكر.
كالعادة، أقفل الأهالي محالهم، وأخذوا يراقبون من شرفات المنازل، المطلة على الساحة، تسلسل الأحداث، في حين كان بعضهم يتفاعل مع المشهد الحماسي الذي أشعلته أناشيد «يا بحرية» و«علِّ الكوفية ولولح فيها»، قبل أن يضطروا إلى الاحتماء في الداخل من حجر «طائش» أو قنبلة غاز، ضلّت طريقها مرتين: الأولى حين وجهت إلى «فلسطين»... والثانية حين أطلقت باتجاه أحد المنازل.

العشرات من شبّان المخيّمات سبقوا الأحزاب إلى ساحة عوكر


يوم السفارة الطويل بدأ قبل الموعد المتفق عليه. العشرات من شبان المخيّمات سبقوا الأحزاب إلى ساحة عوكر، خط الدفاع الأول للقوى الأمنية عن مقر السفارة الأميركية، على طريق لا يتجاوز طوله الكيلومتر الواحد.
لا يتحرك هؤلاء الشبان بأجندة منظمة. شعاراتهم عفوية، كما كلامهم. «نريد أن يفتحوا لنا الحدود»، يقول أحدهم... «سنصل إلى السفارة ونمسح بكرامة ترامب الأرض»، يزيد آخر. هو المنطق الفطري المناقض لمنطق «الدولة» التي استنفرت أجهزتها للقيام بموجب «حماية البعثة الدبلوماسية» الذي يفرضه عليها القانون الدولي، تماماً كما حدث قبل أعوام، حين أقفلت الحدود مع فلسطين عند مارون الراس.
اختلاف المنطقين قاد إلى الجولة الأولى من المواجهات التي انتهت بوصول «الأحزاب»، لتحل فنون الخطابة الجماهيرية مكان الاندفاعة العفوية لشبان الشتات، والشعارات النارية الموجهة بالتساوي بين إسرائيل وراعيها الأميركي وبين «أنظمة الخيانة العربية»، قبل أن تتحول الجلبة إلى رقصة دبكة بشعار «تحرير فلسطين».
الكلمات الحزبية سجلت الموقف المطلوب، في مواجهة قرار ترامب، ومعها دعوات طوباوية لتشكيل «جبهة مقاومة عربية» بالموقف والسلاح على حد سواء، وتنديد بالموقف العربي الخانع، مع تحييد نسبي للموقف الرسمي اللبناني.
اختتمت الكلمات والتقطت الصور ــ الإعلامية والذاتية ــ لتعود التظاهرة الى النقطة التي انطلقت منها. «باقون إلى أن تُفتح الحدود»، قال الشاب ذاته، لكن هذه المرة كان القرار قد اتخذ على المستوى الأمني بفضّ التحرّك سريعاً، ما أطلق العنان أمام موجة ثانية من المواجهات، كانت أعنف هذه المرة، ليس في وابل قنابل الغاز فحسب، وإنما في تحرّك وحدات «مكافحة الشغب» التي اعتقلت عشرة متظاهرين، بحسب بيان قوى الأمن الداخلي، الذي تحدث عن إصابة 19 عنصراً في صفوفها، من دون التطرق إلى الإصابات التي لحقت بصفوف المتظاهرين بسبب العنف المفرط، الذي لامس حتى الصحافيين.
لكن تداعيات الجولة الثانية أعادت الأمور إلى نقطة ما قبل بداية «يوم السفارة»: عاد مصطلح «الزعران» للتداول مجدداً، لكن هذه المرة مع التأكيد على التضامن مع فلسطين، إلا لدى قلة استهجنت ما وصفته محاولة البعض العودة إلى شعار «طريق القدس تمر في جونية»، بعدما تلقت جرعة عنصرية من جهات سياسية ومنصات إعلامية معروفة... أمّا الطريق من ساحة عوكر إلى مقر السفارة الأميركية، فظلّت أبعد من الطريق من بيروت إلى القدس!