القوى التي شكّلت نموذج غسان كنفاني، عديدة، صعبٌ تضافرها إلا لدى إنسان شفّاف، موهوب، عاشق. عاش سنوات التألّق الثقافي والصحافي في بيروت، وعاش لحظات الإبداع المكتنز بالرؤى الحداثية لأدباء وشعراء جادّين، شغوف بالحياة وبالتمرد على الموت وصانعيه. اللاجئ الفلسطيني الشاب، أخذ نسغ دالية نبتت في حاكورة براكيّة في مخيّم محروم، وتحدّى.
سلاحه الكتابة بقلمٍ سيّال لا يتعب. يكتب ويكتب ويكتب، بالسويّةِ نفسها، بالروحِ الوثّابة نفسها. يتنقّل من دفتر الرواية إلى دفتر الدراسة إلى دفتر رسائل الغرام إلى الصحيفة/ الصحف، والملاحق، والتحليلات السياسية والخاطرات الأدبية. أحسب أن أحداً لم يمنح الكتابة ساعات يومه ووهج قلبه وخلاصة عقله، كما فعل كنفاني، متألقاً، متأنقاً، جميلاً، طيباً، ينبض بصرخات المعذبين والعشاق في آن واحد. وحين شبّت المقاومة الفلسطينية، بعد هزيمة 1967، كان كنفاني جاهزاً لكي ينخرط فيها، بكل وجدانه وحيويته وجرأته وصدقه وقلبه الجريح ... «من الأوباش ... ومن عشق الصبايا»!
مثقف وباحث وكاتب وصحافي ومنظّم ومناضل منح «الجبهة الشعبية»، وحده، أيقونات غامضة من سحرٍ يأخذ قلوب الشباب قبل عقولهم؛ ذلك، حين كانت القلوب والعقول تهجس بالتحرير والثورة والوحدة والتغيير التقدمي واليسار وتحدي العالم.
كنفاني هو أول مَن عرّف العرب بشعراء المقاومة في فلسطين الـ48، وأول مَن حوّل المأساة الفلسطينية إلى أدب حقيقي، بلا نواح ولا عنتريات، وأوّل من قدّم الفلسطيني كعربيٍ متصل لا منفصل، مبدعاً ومناضلاً وملتاعاً بالحب ومنتجاً وأنيقاً.
قبل هذا وبعده، وربما بسبب هذا كله، كنفاني هو صاحب الصرخة التي أيقظت الفلسطيني لكي يقرع جدران الخزّان؛ كان المشردون الفلسطينيون الهاربون من جحيم المخيمات والفقر والتهميش يتسللون إلى ديار الهجرة النفطية، بحثاً عن مستقبل فردي. ثلاثة منهم اختبأوا في خزان شاحنة، ماتوا من الاختناق والحر على الحدود الكويتية، ولم يقرعوا الخزّان. مفهوم، بالطبع، أن الإنسان ـ بغريزة البقاء اللعينة ـ قد يقبل أي مذلّة، وقد يتحمّل أي هوان، وأي أذى، مهما يكن، لكي يبقى على قيد الحياة، لكن اللامفهوم، اللامنطقي، اللاغريزي، أن يقبل الإنسان الموت، مجاناً، فلا يصرخ طالباً النجدة.
هكذا رأى كنفاني شعبه، مشرداً متسللاً فاقداً حتى للدفاع الغريزي عن حقه في الحياة، فأطلق صرخة الثورة: اقرعوا جدران الخزّان!
لم توجد، ولا توجد صرخة أعمق وأصدق وأكثر إيلاماً وتحفيزاً منها، أيقظت مشاعر الكرامة الإنسانية لدى جيل كامل. ذلك قبل أن تمر السنون، ويتحول متسللو صحارى النفط إلى بورجوازيين مشوّهين وكمبرادور للكمبرادور، يقررون صرف تضحيات الشعب الفلسطيني ودماءه، في شراكة أمنية مع الاحتلال، أو شراكة سياسية مع تحالف السلطان العثماني وتابعه القَطري.
في السبعينيات، وكان دم الشهيد غسان كنفاني لم يجف بعد، كانت سيرته وحضوره وكتبه من زوادة الشباب. كان جذوة تشتعل في الصدور. فمن المستحيل أن تقرأ كنفاني، ثم لا تفكّر بفلسطين، ولا تفكّر بحريتك الشخصية، وبتحرير بلدك، وتحرير عقلك! وكان واضحاً، حينها، كالبداهة، لماذا أقدم العدو الإسرائيلي على اغتيال كنفاني في بيروت، عام 1973، في «عملية نوعية». أكانت الرصاصات الصهيونية تستهدف كاتباً أم أنها استهدفت النبي الفلسطيني؟
في زمن الكمبرادور والتنسيق الأمني وصلح الحديبية القطري ـ الإسرائيلي، تحوّل غسان كنفاني من جمرة لا تنطفئ في قلوب الفتيان والشباب، إلى كتابٍ على الرفّ، لكن في فلسطين، بالتحديد في غزة ـ المقاومة، لا يزال اسم غسان كنفاني يعلو حائط مدرسة. في المدرسة، اليوم أو غداً، سوف يسأل فتىً: مَن هو غسان كنفاني؟ وقد يقرأه، وقد يصرخ، وقد يقرع الخزّان، وقد يثور على انقسام الفلسطينيين، وعلى تصفية القضية الفلسطينية، وعلى الكمبرادور، بشقيه، المدني والملتحي.
لذلك كله، أو لمجرد الجهل، أو تعبيراً عن الحقد على العلمانيين واليساريين، أقدمت الحكومة الحمساوية في غزة على حذف اسم غسان كنفاني من يافطة المدرسة الغزيّة، لترفع مكانه اسم «مرمرة»، السفينة العثمانية، بحجة بطولتها في محاولة كسر الحصار عن القطاع! كان يمكن للحمساويين أن يعطوا اسم مرمرة لمدرسة مسماة باسم أبو هريرة مثلاً. لكن، كلا. فالفارق بين كنفاني و»مرمرة» نوعي ويفصل بين نهجين: نهج التحرر الفلسطيني الذاتي في سياق الثورة العربية، ونهج البحث عن إمارة معادية لقلب العرب (مصر وسوريا) وتعيش في ظلال التفاهم التركي القطري الاسرائيلي.

■ ■ ■


ليس للفلسطينيين فقط، بل لليبيين والعراقيين، وخصوصاً للسوريين، الهاربين بحثاً عن حل فردي في المهاجر الغربية، ينهض غسان كنفاني من ضريح الشهادة، ليصرخ على أكوام جثث أكثر من سبعين مهاجراً ماتوا اختناقاً في شاحنة التهريب المتروكة على حافة طريق عام في شرق النمسا: لماذا؟...
في هذه الأرض، أرضنا، نحيا ونجوع ونقاتل، معاً، وقد نموت، لكن... لن ننتهي اختناقاً في شاحنة تهريب البشر التعساء.