اليرموك | في منتصف الخمسينيات، بدأ الفلسطينيون يتوافدون إلى مخيم اليرموك، أو ما كان يسمّى «بساتين الشاغور»، بعد أن قطنوا المساجد والمدارس والمشافي وبعض التجمعات، إثر النكبة. أما أرض «المهايني والحكيم والرجلة»، فهي أرض زراعية تحيط بها البساتين من ثلاث جهات وحي الميدان الدمشقي من الجهة الرابعة. وكانت المؤسسة العامة للاجئين الفلسطينيين توزّع الأراضي بوحدة قياس «النمرة». وهي شرائح عمقها 10 أمتار وعرضها 4 أمتار، وذلك حسب عدد أفراد الأسرة (نمرة أو نمرتان ونصف نمرة وهكذا..)، أما وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين فكانت تقدم مساعدة 300 ليرة سورية لكل غرفة تُبنى. منهم من استطاع بناء غرفة واحدة أو غرفتين واستعيض للباقي بحلول مؤقتة. وليس غريباً على الفلسطيني اللاجئ أن يستخدم المؤقت، ولربما أصبحت الوسائل والحلول المؤقتة تقليداً. وكان للزينكو أو ألواح «التوتيا» الرواج الأكبر لرخص ثمنه وسهولة تركيبه، ولا داعي لتذكير اللاجئ الفلسطيني بمزايا الزينكو التي تتحالف وحرارة الفصول ولا تحميك منها غالباً.كبر المخيم وكبر الجيل الذي تلى جيل النكبة. ومع ازدياد عدد السكان استبدل الزينكو بالأسمنت، ولكنه بقي مخيماً بوحدة شكل البيوت ووحدة الحالة الاقتصادية للجميع تقريباً. فهنا لا يوجد غني وفقير، فالجميع فقراء. وكانت بيوت المخيم تحتوي في الغالب على غرفة كانت تدعى «الغرفة الصغيرة»، وهي عبارة عن عليّة ملحقة بالسطح، كانت من نصيب الشباب في الغالب، وتحتضن حلقات الدراسة ولعب الورق (أي الشدة) والنقاش واستقبال الأصدقاء.
وفي منتصف الثمانينيات راح المخيم يمتد غرباً وشرقاً، وازدادت حركة العمران، ولم تعد بيوت المخيم المعدة بطريقة استثنائية وريفية وبسيطة تكفي حاجات أبناء المخيم، فبدأ المخيم يأخذ شكلاً آخر أكثر مدنيّة. هكذا، ارتفعت الطبقات واستقبل المخيم أعداداً كبيرة من المناطق المحيطة به.
ومع نهاية التسعينيات خلا المخيم نهائياً من البيوت «العربية»، كما كان يطلق عليها، وحلّت مكانها البنايات. فأعلنت وكالة الأونروا أنها لم تعد تعتبر اليرموك مخيماً. ومجدداً ضاقت البيوت الحديثة والضيقة بالشباب، ولم يبق إلا السطح لتشييد غرفٍ صغيرة تجمع الحلقات المذكورة أعلاه. هذه المرة كان اللجوء إلى الزينكو سبباً جديداً: فسقف الزينكو لا يعتبر طبقة إضافية بالنسبة إلى قوانين بلدية اليرموك، فعاد الزينكو مرة أخرى ليعطي جيلاً آخر درساً في المؤقت والاستثناء، وبدا المشهد كأن المخيم يحمل مخيماً فوق أكتافه. وكان لاندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية أثر في توحيد سكان المخيم الجديد: كان معظمهم شباباً يرتدون «لفحات» فلسطينية، يملأون الجدران بمقاطع لدرويش وغسان، وصور للشهداء والفنانين ولوحات ونجوم الكرة أحياناً، ولا ينامون حتى حين ينام المخيم. هكذا تبقى الأنوار المتسللة من غرفهم وأصواتهم العالية تسكن الليل. نقاش يكفر بالحالة السياسية الفلسطينية، وكتب حمراء وزرقاء ومقاطع موسيقية تساعد الحالمين منهم على إكمال حلمهم.
منتصف العام المنصرم لم يعد المخيم الجديد على حاله. فمع بداية الأحداث في سوريا وانعدام المراقبة على المخالفات السكنية، اقتُلع الزينكو وحل الأسمنت مكانه، وبات فعلاً مخيماً جديداً فوق المخيم، لا تنقصه إلا بعض الشوارع والمساجد حتى يتخلى عن شكله القديم. لا أعرف الكثير عن سكانه الجدد، ولا أعرف إذا ضاق هذا الجديد الأكثر ضيقاً على أصحابه. أين سيفجّرون مخيمهم الثالث؟ وهل سأرى الزينكو (الاستثناء والمؤقت) مرة أخرى (عذراً وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين) في المخيم؟