شكّل الدعم العسكري الأميركي لإسرائيل أحد أبرز تجلّيات النهج السياسي المزدوج الذي اتبعته إدارة الرئيس جو بايدن حيال الحرب على غزة. وإذا كان «القصف الكلامي»، في السرّ والعلن، من جانب أركان الإدارة الأميركية، والموجه ضدّ رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، على خلفية اتّهام الأخير واشنطن بـ»التقصير» في دعم تل أبيب عسكرياً كما يشتهي «بيبي»، يندرج ضمن «دبلوماسية الحرد» التي دأبت عليها الإدارة الديموقراطية تجاه حليفتها، فإن توجه كبار قادة الحزب الديموقراطي في مجلسَي النواب والشيوخ إلى إلغاء اعتراضهم على صفقة طائرات «F-15» لصالح إسرائيل، هي الأكبر على الإطلاق في تاريخ العلاقات الثنائية، يحمل دلالات في اتجاه معاكس. والمنطق نفسه ينطبق على التسريبات في شأن إلغاء إدارة بايدن اجتماعاً استراتيجياً ثنائياً مع الجانب الإسرائيلي، بسبب انتقادات نتنياهو لسياسة بايدن، علماً أن واشنطن استضافت، خلال الساعات الماضية، وزير الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر، ومستشار الأمن القومي تساحي هنغبي.
كلام نتنياهو: أي أثر على «الردع» الإسرائيلي والعلاقات مع أميركا؟
على مدى الأيام القليلة الماضية، كان كلام نتنياهو، الذي احتج فيه على تعليق إدارة بايدن إرسال شحنة سلاح واحدة من القنابل الثقيلة كانت مقرّرة للجيش الإسرائيلي، محور اهتمام وسائل الإعلام الأميركية، ولا سيما لناحية تداعياته المحتملة سواء على العلاقات بين واشنطن وتل أبيب، أو على صورة «الردع» الإسرائيلي. وفي هذا الإطار، نقل موقع «أكسيوس» عن مسؤولين أميركيين، تأكيدهم أن «الخلاف المستجد بين نتنياهو وإدارة بايدن من شأنه أن يعيق الجهود الدبلوماسية (التي تقودها الولايات المتحدة)، والرامية إلى تهدئة التوترات على الحدود اللبنانية، وتجنُّب وقوع حرب مع حزب الله»، وأن «تصرفات نتنياهو، التي تنطلق من اعتبارات مصالحه السياسية الخاصة، من شأنها أن تحدث شرخاً في أسس العلاقات بين الحليفَين الاستراتيجيَّين، ومزيداً من التآكل في قوة الردع الإسرائيلية في عموم المنطقة بصفة عامة، وفي منظور زعيم حزب الله (السيد حسن نصرالله)، وداعميه الإيرانيين، بصفة خاصة».
أشار بلينكن إلى أن «التحالف الأمني» بين واشنطن وتل أبيب يتخطّى خلافاتهما في شأن حرب غزة


وعلى رغم إشارة وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، إلى أن «التحالف الأمني» بين واشنطن وتل أبيب، يتخطّى خلافاتهما في شأن حرب غزة، ويتعدّاها نحو مجابهة التحديات المتصلة بإيران وحلفائها الإقليميين، رجّح الموقع، نقلاً عن المصادر نفسها، أن «تُخيّم» الخلافات الحالية على جهود التنسيق في شأن مواجهة إيران و»حزب الله» خلال الاجتماعات المقرّر انعقادها بين مسؤولين أميركيين وإسرائيليين في الفترة المقبلة، ومن بينها لقاءات سيعقدها وزير الأمن الإسرائيلي، يوآف غالانت، في واشنطن الأسبوع المقبل. وبحسب الموقع الأميركي، فإن تصريحات نتنياهو ربما كانت تأتي في جانب منها، بدافع «المنافسة مع غالانت - على كسب ثقة الجمهور (الإسرائيلي) -»، الذي يتطلع إلى إقناع نظرائه الأميركيين بالإفراج عن شحنة السلاح المعلّقة من جانب واشنطن، والتي تشمل نحو 3500 قنبلة، معظمها زنة 2000 رطل، وهو ما يعني محاولة الأول، وبصورة استباقية، نسب الفضل إلى نفسه إزاء أي تقدّم يحرزه الثاني في ملف شحنة القنابل المشار إليها.
في المقابل، ووفقاً لمصادر أميركية مسؤولة، فإن واشنطن لا تزال تصرّ على ربط مصير تلك الشحنة، بوقف العملية العسكرية الإسرائيلية في رفح. وبدورها، ترى صحيفة «نيويورك تايمز» أن ما جاء على لسان نتنياهو يحمل دلالات على تبنّيه «استراتيجية ذات طابع قتالي، تعكس حاجته إلى أن يوازن بين اعتبارات متضاربة، تقوم في شقّها المحلي على رغبته في الظهور بمظهر المدافع عن إسرائيل في وجه الغضب العالمي المتصاعد ضدّها بسبب حرب غزة، وحرصه على ضمان روابطه الوثيقة بحلفائه من تيار اليمين المتطرف، فيما تقوم في شقها الخارجي على خوض معركة سياسية حادة وعالية المخاطر مع إدارة بايدن، التي وفّرت له الغطاء السياسي لحملته العسكرية في غزة».

ملف تسليح إسرائيل: الضغوط من بايدن أم عليه؟
يأتي ذلك في ظلّ ضغوط متزايدة تُمارَس على بايدن من قِبَل الجمهوريين، وتحديداً في ملفّ شحنة القنابل الثقيلة، إذ اعتبر زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ، ميتش ماكونيل، أن قرار البيت الأبيض في هذا الخصوص «قد جعل مهمّة إسرائيل (في قطاع غزة) أكثر صعوبة»، مشدّداً على أن حكومة نتنياهو «تحتاج إلى أن تُعطى الهامش والمساحة اللازمَين لإنهاء تلك المهمّة، مع ضمان تمتّعها بحرية العمل ضمن جدولها الزمني الخاص، وفقاً لما يُمليه الواقع التكتيكي في الشرق الأوسط، وليس وفقاً لما تشتهيه الرياح السياسية في واشنطن». ومن هنا، عاد الحديث عن نية الإدارة الأميركية تمرير صفقة 50 طائرة من طراز «F-15» لحساب إسرائيل، بعد عدول كل من غريغوري ميكس، وهو أحد أبرز أعضاء الحزب الديموقراطي في «لجنة الشؤون الخارجية» في مجلس النواب، وينجامين كاردين، رئيس اللجنة، عن معارضتهما في وقت سابق التوقيع على الصفقة، المقدّرة قيمتها بـ18 مليار دولار، على خلفية احتجاجهما على الأداء العسكري الإسرائيلي في حرب غزة. وبحسب محلّلين، فإن المفارقة هي أن موافقة الرجلَين على الصفقة، التي تحظى بتأييد واسع من الجمهوريين، جاءت استجابة لضغوط مارسها بايدن نفسه عليهما.
ومع ذلك، يدرج هؤلاء المحلّلون ضغوط بايدن في خانة «الازدواجية المألوفة» التي يتعاطى بها الرجل مع رئيس حكومة الاحتلال، كونه يستهدف استمالة اللوبي الصهيوني الداعم لإسرائيل لتعزيز فرصه في الانتخابات الرئاسية المقبلة، من جهة، فضلاً عن حاجته الشخصية والسياسية إلى توجيه رسائل امتعاض من «بيبي» ومشاكسته في ملف التسليح من جهة أخرى، وذلك انطلاقاً من قناعة بدأت تتشكّل لدى أركان إدارته بضرورة وقف الحرب على غزة. والجدير ذكره، هنا، أنّ تمرير صفقة الطائرات بصورة رسمية ونهائية يتطلب مساراً رقابياً وبيروقراطياً طويلاً سواء داخل أروقة وزارة الخارجية، أو داخل الكونغرس، واللجان المعنية كلجنة القوات المسلحة وغيرها، وهو مسار قد يمتد لسنوات، الأمر الذي سبق أن أقر به ميكس، حين أكد مواصلة دعمه استمرار البيت الأبيض في تأجيل توريد شحنات أسلحة إلى الجانب الإسرائيلي بدعوى «مواصلة الضغط على إسرائيل لحثّها على إجراء تحسينات كبيرة وملموسة على مختلف الصعد، وخصوصاً على صعيد جهود الدعم الإنساني (في غزة)، والتخفيف من حصيلة القتلى المدنيين هناك». وينطلق مراقبون للشأن الأميركي من التصريحات الصادرة أخيراً عن كبار المسؤولين في إدارة بايدن بحقّ نتنياهو، في موازاة ما يظهره أعضاء كونغرس بارزون عن الحزب الجمهوري من رغبة في الدفاع عنه، على وقع استعدادهم للاستماع إلى كلمة مرتقبة له تحت قبة «الكابيتول» الشهر المقبل، للتدليل على مدى عمق الانقسامات الحزبية في الولايات المتحدة، والتي باتت تتمحور يوماً بعد يوم حول حرب غزة، والموقف من حكومة نتنياهو.