غزة | أنهى جيش الاحتلال تكتيك التقدّم البطيء والحذر الذي اعتمده في بداية عمليته البرية في مدينة رفح جنوبي قطاع غزة، ولم يعد يقيم أي وزن لخطوط الإدارة الأميركية الحمر، إذ ارتكب العدو، مساء أمس، مجزرة جديدة طاولت خيام النازحين في منطقة المواصي غربي المدينة، والتي لجأت إليها آلاف العائلات التي تركت شرقي رفح أولاً، ثم وسطها، تحت دوي المدافع. ولم يكلّف جيش الاحتلال نفسه هذه المرّة إلقاء منشورات تطالب الأهالي بالنزوح مجدّداً، حيث اعتلت الدبابات تلّة رملية غرب الحي السعودي تكشف منطقة الخيام، وبدأت بالقصف العنيف والمباشر، مستهدفة العائلات التي تسكن الخيام. وأظهرت المشاهد التي نقلها الصحافيون من هناك، العشرات من الخيام التي احترقت بمن يسكنها، وعدداً كبيراً من الجثامين المتفحّمة، بينما كان الأهالي يحاولون إطفاء النار بالرمال، وما توفّر من المياه. ووسط ذلك، فرّت مئات العائلات من دون أن تتمكّن من حمل أي أغراض، ولا حتى الملابس. ولاحقاً، أعلنت وزارة الصحة أن القصف المدفعي على مواصي رفح، تسبّب باستشهاد 30 مدنياً وإصابة العشرات، فيما تجاوزت حصيلة المجازر الجماعية خلال يوم واحد الثمانين شهيداً، ومئات الجرحى.المجزرة هذه المرة، مرّت مرور الكرام، فلم تصدر أي جهة عربية أو دولية من التي فتحت عيونها لرصد ما يجري في رفح، أي بيان شجب أو استنكار. وهذا يدلّ على أن إسرائيل عرفت الطريقة التي تُسكِت بها كل الأصوات، وهي تكرار الشيء نفسه، وتحمّل الإدانة مرة أو مرتين، ثم صناعة الاعتياد الجمعي على الحدث. هكذا، تستمر المذبحة في المدينة التي كانت تؤوي أكثر من مليون نازح، ووقفت «إنسانية» المجتمع الدولي لأجلها على أصابع قدميها. وخلال أكثر من 40 يوماً من العملية البرّية في رفح، دمّر جيش العدو نحو 50% من منازل المدينة بشكل كلي، ومسّ بالبنى التحتية فيها، وحوّلها إلى مدينة أشباح أسوة بكل مكان مرّت فيه دباباته، فيما يدور جدل بارد في أروقة القرار الأميركي حول إن كانت إسرائيل تجاوزت الخط الأحمر أم لا.
دمّر جيش العدو خلال أكثر من 40 يوماً من العملية البرّية في رفح، نحو 50% من المنازل بشكل كلي


ماذا عن مصير النازحين الذين تجاوز عددهم المليون في رفح، والذين خرجوا من كل الحسابات؟ لقد هُجِّروا جميعاً إلى المجهول، حيث اندفع الناس وسط ظروف شديدة القسوة إلى مواصي المدينة ظناً منهم أن التجمّع البشري الأكبر، سيبقى خارج حدود النار. ويقول نبيل سعد الله، وهو نازح من شمال القطاع إلى جنوبه، في حديث إلى «الأخبار»، «إننا أُخرِجنا منذ بداية الحملة على رفح، تحت تهديد القصف. نزحنا إلى مواصي خانيونس، إلى العراء، تحت أشعة الشمس الحارقة. لم نجد خيمة. وبتنا عشرة أيام في العراء، ثم اشترينا ما وجدنا من نايلون وأقمشة، ومنها صنعنا خيمة. نشعر بأننا نبيت في غابة. تدخل إلى الخيمة العقارب والحشرات، وتحرقنا الشمس والحرارة المضاعفة في ساعات الظهيرة، ويقرسنا البرد مع ساعات الفجر».
أما في مدينة خانيونس المدمّرة، التي عادت تكتظ بمئات الآلاف من النازحين، فإن الوضع لا يقل سوءاً عنه في رفح. ويقول أحمد عبد اللطيف الذي نزح من مدينة بيت لاهيا إلى منطقة العودة في رفح، ومنها إلى تل السلطان ثم حي الأمل في خانيونس، لـ «الأخبار»: «لا توجد مياه ولا شبكة صرف صحي ولا كهرباء في المدينة. لا تجد إبرة أو عود ثقاب. المدينة عبارة عن خرابة اضطر الناس للعودة إليها بعدما انعدمت الخيارات. نعيش حياة بدائية بكل ما تحمله الكلمة من معنى». ويغيب ما تقدّم من تفاصيل عن معايير الخطوط الحمر. وتغيب رفح، كما كل المناطق، بحكم الاعتياد، عن خطابات الأطراف الداعمة للعدو، فيما الحاضر الوحيد في المشهد، هو آلة الخراب والموت الإسرائيلية، والتي تمارس سلوكها ذاته منذ قرابة التسعة أشهر، ويفشل الجميع في كبحها.