لم يعد "المجلس الانتقالي الجنوبي" المسعّر الأول للحرب في جنوب اليمن. كما لم تعد أبو ظبي اللاعب الوحيد في منافسة الرياض، إذ ثمة تحوّلات تشهدها الساحة اليمنية، وخصوصاً منها الجنوبية، أفقدت القوى المحلية قدرتها على رسم خطوط المواجهة. ولعلّ الحضور الأميركي اللافت في المشهد السياسي والعسكري في عدن، منذ بدء معركة صنعاء البحرية ضد الملاحة المرتبطة بإسرائيل، هو العامل الجديد الذي غيّر ملامح الصراع بين الأطراف المحلية الموالية للسعودية والإمارات. وعلى وقع الانهيار الشامل الذي يضرب المؤسسات ويعطّل الخدمات في المحافظات الجنوبية، انتفض الشارع في تلك المحافظات، موجّهاً سهامه هذه المرة إلى "التحالف"، فيما الأخير يعلّق كل الإخفاقات على شمّاعة الحكومات المحلية المتعاقبة الموالية له، مستفيداً من حالة الانقسام بين "المجلس الانتقالي" و"المجلس الرئاسي"، لحرف بوصلة الغضب الشعبي في اتجاه أحد الطرفين.من جهته، يستشعر "الانتقالي" خطورة الانقلاب العام في المزاج الشعبي الذي تحوّل إلى مندّد بممارساته، ليلجأ هذه المرة إلى فتح معركة سياسية جديدة، في مواجهة ما يسمّى "الشرعية"، من دون أن يحدّد بشكل صريح أفق الجولة الحالية، لكنه لمّح إلى إمكانية الانسحاب من الشراكة في الحكومة. وعلى رغم أن الخلاف بين الطرفين يعود إلى أسباب لا تتّصل بالقضايا التي أخرجت الناس للتظاهر يومياً في المحافظات الجنوبية، وإنما تتعلق بالمحاصصة التي تمخّضت عن اتفاقات الرياض الهادفة إلى إشراك "الانتقالي" في المناصب القيادية في "الرئاسي" والحكومة والمؤسسات، إلا أن "الانتقالي" استغلّ حالة الغضب الشعبي إثر تدهور خدمة الكهرباء في مدينة عدن التي تصل درجات الحرارة فيها مع حلول الصيف إلى الخمسين، ليس فقط للهروب من موجة الغضب، ولكن أيضاً لابتزاز خصومه في "الرئاسي" والحكومة، المدعومين من الرياض، من أجل الرضوخ لشروطه الهادفة إلى الاستئثار بالمناصب القيادية المهمة.
لكن الخلاف بين الطرفين لا يقتصر على ذلك فقط، بل يُعدّ صدى للخلاف الحقيقي بين الرياض وأبو ظبي، والذي تفاقم خلافاً للتوقعات التي أعقبت عملية دمج المكوّنات الموالية لهما في توليفة "المجلس الرئاسي"، ووصل إلى ذروته بعدما مهّدت الرياض للسلام مع صنعاء بشكل منفرد. وهكذا، وصل الصراع بين الدولتين إلى مرحلة اللاعودة، وبدأ كل طرف يشحذ قواه في انتظار الجولة الأخيرة من المواجهة، والتي قد تفضي إلى انتصار طرف وخروج الطرف الآخر مهزوماً كلياً من المعادلة، على عكس موجات الصراع السابقة التي كانت تنتهي بتوليفة جديدة، واتفاقيات ترقيعية وظيفتها إدارة الصراع بين القوى المحلية.
مصفوفة الأزمات التي تراكمت منذ بدء الحرب كانت جزءاً من سياستها، ولم تكن أضراراً جانبية


وأفقدت هذه التعقيدات "المجلس الانتقالي" قوته وحضوره، وأدّت إلى تشتّت خطابه السياسي والإعلامي، وصولاً إلى مرحلة الازدواجية في تبنّي خطاب المعارضة والسلطة في آن معاً، وفقدان عامل المناورة، وضيق الخيارات، بين الخروج من عبء الشراكة في "الرئاسي" والحكومة، أو الاستمرار فيها، والخياران كلاهما خسارة له، وخصوصاً أن الانسحاب من تلك التوليفة يعني فقدان حصص الشراكة التي ستذهب إلى الأحزاب السياسية، في حين أن البقاء فيها سيضع المجلس في دائرة المواجهة مع الشارع الجنوبي.
ولا يملك "الانتقالي" الخروج من المأزق إلا بقفزة كبيرة، كأن يعلن تشكيل حكومة جنوبية بشكل منفرد، لكنّ قراراً كهذا سيحدث هزّة كبرى، ليس فقط في علاقته مع الرياض وأبو ظبي، بل أيضاً مع واشنطن، التي ترعى بشكل مباشر الترتيبات السياسية والعسكرية في عدن منذ بدء معركة البحر الأحمر. والجدير ذكره، هنا، أن التدخل الأميركي هو المتغيّر الجديد في حلبة الصراع بين الأطراف الموالية للتحالف السعودي - الإماراتي، والذي عزّز أوراق رئيس "المجلس الرئاسي"، رشاد العليمي، ورئيس حكومته، أحمد بن مبارك، المحسوبين على الولايات المتحدة، في مواجهة "الانتقالي"، حتى وصلت الحال بابن مبارك إلى نشر غسيل فساد "الانتقالي" في أكثر الملفات حساسيّة، أي ملفّ الكهرباء، متهماً إياه بنهب ما يقارب المليار دولار سنوياً في عمليات شراء الوقود بأسعار وهمية، فضلاً عن ملفات الفساد الأخرى التي أدّت إلى الانهيار الاقتصادي، وعلى رأسها الجبايات التي يفرضها المجلس.
وعلى رغم وضوح الخلل، إلا أن حكومة ابن مبارك لم تبادر إلى وضع حلول عاجلة له، بل أعلنت أن تلك الملفات شائكة وتحتاج إلى وقت طويل لمعالجتها. وإذ يعدّ ذلك إشارة واضحة إلى أن مصفوفة الأزمات التي تراكمت منذ بدء الحرب كانت جزءاً من سياسة هذه الأخيرة، ولم تكن أضراراً جانبية يمكن تعويضها، فهو يؤكد الاتهامات المتداولة بأن ملف الخدمات ملف سياسي، ولن تستطيع أيّ حكومة محلية التعامل معه إلا برضى من "التحالف" الذي يدير تلك الأزمات. لا بل بدا، بعد انكشاف الدور الأميركي في عدن أخيراً، أن الولايات المتحدة أعطت الضوء الأخضر للعليمي وابن مبارك، لإدارة الواقع الراهن وليس إيجاد معالجات له. لكن هذا الواقع المركّب والمعقّد، سواء لناحية تعطّل خدمة الكهرباء، أو انهيار العملة الوطنية، أو توقّف المرتّبات، أشعل السخط في المحافظات الجنوبية، حيث بدأ الشارع يصبّ جام غضبه على "المجلس الانتقالي" لا على حكومة العليمي، على اعتبار أن "الانتقالي" يتّكئ في برنامجه السياسي على هذه القضايا التي تشكّل هاجساً عاماً للمواطنين، ولكن بعد سبع سنوات من تأسيسه وسيطرته على عدن وبعض المحافظات، إضافة إلى أربع سنوات كشريك في الحكومة، لم يتحسّن الوضع هناك، بل على العكس من ذلك، تدهورت كل مناحي المؤسسات.
وحمّلت التصريحات المتواترة الرسمية وغير الرسمية، "الانتقالي"، المسؤولية المباشرة عن الوضع الحالي، بعد تورّطه في الفساد، وهو ما ذهبت إليه أيضاً قيادات من داخل بيئة "الانتقالي"، من مثل نائب رئيس المجلس، أحمد سعيد بن مبارك، الذي قال، قبل أيام، إن "الانتقالي" غارق في الفساد. وإذ يفترض أن تدفع حالة الانكشاف هذه، المجلس، إلى اتخاذ خطوات تنفض غبار الفساد والفشل والعجز، إلا أن تلك الخطوات محفوفة بالمخاطر في ظل النفوذ القوي لـ"التحالف" والولايات المتحدة في الجنوب، وعدم تهاون الدول المذكورة إزاء إمكانية تجاوز الحلفاء الخطوط المرسومة بدقة.