أربعون طفلاً مقطوعو الرأس. الكذبة التي روّج لها الاحتلال الإسرائيلي مع بداية «طوفان الأقصى»، تبريراً لحربه على قطاع غزة، امتدت أسابيع، واستخدمها مشاهير وإعلاميون غربيون من دون وجود لو صورة واحدة لطفل إسرائيلي مقطوع الرأس. ليل الأحد 26 أيار (مايو)، قصف الاحتلال الإسرائيلي مخيّم تل السلطان للاجئين الفلسطينيين في رفح، فاستشهد 45 شخصاً، معظمهم من النساء والأطفال. صباح الإثنين، نشر المصوّر معتز العزايزة مشاهد لطفل مقطوع الرأس في رفح. وإن كان أصدقاء إسرائيل يبحثون عن أطفال مقطوعي رأس، فهم في رفح. لكنّ الفلسطينيين لا يبحثون عن إدانة للفعل، فهذا لن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء، وحتماً لن يوقف الإبادة المستمرة منذ الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) 2023.فكّكت صحيفة «لو موند» الفرنسية هذه الأقاويل، في مقال نُشر في 3 نيسان (أبريل) 2024، تحت عنوان «40 رضيعاً مقطوعو الرأس: تفكيك الشائعة في قلب المعركة الإعلامية بين إسرائيل وحماس». اعتبرت الصحيفة أنّه وسط كل الحملات الإعلامية منذ السابع من أكتوبر، انتشرت بشكلٍ استثنائي شائعة واحدة، هي الادعاء بقطع رؤوس 40 رضيعاً في كيبوتس كفار عزة.


وأضافت الصحيفة أنّ المكتب الإعلامي للحكومة الإسرائيلية أكّد أنه «لم يكن هناك أبداً 40 رضيعاً مقطوعي الرأس، لا في كفار عزة ولا في أي كيبوتس آخر». مع ذلك، أضافت الصحيفة أنّ الشائعة لا تزال قائمة واستُغلّت من قبل إسرائيل. وأوضحت أنه بعد تسلل المقاومة في السابع من أكتوبر إلى الأراضي المحتلة و«بسبب خطر الأفخاخ المتفجرة، لم يتمكن الصحافيون من دخول إلا عدد قليل من المنازل، والجثث الإسرائيلية الوحيدة التي رأوها كانت في أكياس الجثث، كلّها لأشخاص بالغين». ولم يذكر الطاقم العام أي شيء عن قتل أطفال، كما أتيحت الفرصة للصحافيين لاستجواب الجنود الإسرائيليين وطواقم الإسعاف «الذين كانت رواياتهم أكثر غموضاً وإزعاجاً» وفقاً لما جاء في المقال.
الإجرام الإسرائيلي تجاه الأطفال ليس جديداً، وصور أطفالنا مقطوعي الرأس ليست جديدة أيضاً. بعد إعلان العدو عملية «عناقيد الغضب» في 11 نيسان (أبريل) في عام 1996، قصفت إسرائيل بالفوسفور مركز قيادة «فيجي» التابع لقوات الأمم المتحدة لحفظ السلام، في بلدة قانا في جنوب لبنان في 18 نيسان (أبريل)، ما أدى إلى استشهاد 175 شخصاً، وجرح 300 آخرين. التجأ يومها 800 شخص، هرباً من القصف الإسرائيلي. ويومها أيضاً قُطعت رؤوس أطفال في ملجأهم. وأيضاً كانت ردود الفعل الدولية خجولة، تطالب بوقف لعمليات إطلاق النار بالنغمة نفسها المستمرة منذ ثمانية أشهر، من دون أي تدبير موجع بحق إسرائيل لوقف حربها، من وقف التمويل والتسليح والعقوبات الاقتصادية.
التاريخ يعيد نفسه، بقاتل واحد وشعبين، يتلاحم الدم يومياً بينهما. والظلم أن يحمل أب أو أم، جثة طفله، مقطوع الرأس، يصرخ باكياً، ربما يصل صدى ألمه إلى مكانٍ ما. لكن هذا الألم يبقى أسير صاحبه، أو لما تكرّرت الجريمة اليوم. كان ناظم حكمت يدعو سابقاً إلى أن «نعطي العالم للأطفال ليوم واحد فقط/ مثل بالون بألوان زاهية ومبهرة ليلعبوا به/ ندعهم يلعبون ويغنون بين النجوم/ دعونا نعطي العالم للأطفال/ مثل تفاحة كبيرة مثل رغيف خبز دافئ/ على الأقل ليوم واحد ندعهم يحصلون على ما يكفي/ دعونا نعطي العالم للأطفال/ على الأقل ليوم واحد دعوا العالم يتعلم الصداقة/ الأطفال سيأخذون العالم من أيدينا/ وسيزرعون أشجاراً خالدة»، ولكننا أعطيناهم الموت.
لن يوقف قطع رؤوس أطفال غزة الحرب، كما لم تكن مجزرة «مستشفى المعمداني» كفيلة بوقفها. هذا النوع من المجازر لا يستطيع أحد تبريره أو التغاضي عنه، ولكن بشاعة قصف مستشفى وقتل الجرحى والأطباء، مرّ وأكملت الحرب مسارها، والأسوأ أنه خضع للتأويل والتشكيك بحقيقة حصوله.
بعد إعلان عملية «عناقيد الغضب» في عام 1996، قصفت إسرائيل بالفوسفور مركز قيادة «فيجي» في جنوب لبنان


غزة اليوم باتت مدينة غير قابلة للعيش، دُمرت منازلها، ومستشفياتها ومدارسها. نزح سكانها نحو الجنوب، فقُتلوا في مخيّمات لجوئهم. لا مكان آمن لهم على هذه الأرض، الموت يحاصرهم، ولا من مستجيب لصراخهم. لم يبقَ لغزة وأطفالها إلا المجهول. في السادس من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، وصف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، غزة بأنها باتت «مقبرة للأطفال»، ودعا يومها إلى وقف إطلاق النار، والسماح بدخول المساعدات إلى المناطق المحاصرة. كان عدد الشهداء قد وصل إلى 10 آلاف. لكن إسرائيل ترمي دوماً بعرض الحائط الشرعية الدولية. وبعد الحرب العالمية الثانية، أُدخلت الحماية القانونية للأطفال في القانون الإنساني الدولي، تحديداً في اتفاقية جنيف عام 1949، المتعلقة بحماية الأشخاص المدنيين في زمن الحرب. تلاحق إسرائيل الفلسطينيين، كما يلاحق القاتل المتسلسل ضحاياه. يعتبر علم الأعصاب أنّ القتلة المتسلسلين لا يشعرون بالتعاطف مع الآخرين، بالإضافة إلى غياب واضح للشعور بالذنب تجاه أفعالهم. كما يفتقرون إلى الشعور بالضمير الاجتماعي، المكتسب عادةً مما يتلقاه الطفل من ذويه ومحيطه، خصوصاً في التمييز بين الصواب والخطأ، وهذا الذي يمنعنا من الانخراط في السلوك المعادي للمجتمع. ومع ذلك، يبدو أن القتلة المتسلسلين يشعرون أنهم مستثنون من أهم العقوبات الاجتماعية إطلاقاً، أي عدم قتل شخص آخر.
غزة اليوم وحيدة. وكما باتت صور المجازر معتادة لكثيرين، وكما بات عدد الشهداء رقماً، يبدو أن الأسوأ قد يحصل وتصير مشاهد أطفال مقطوعي الرأس أمراً معتاداً!