وبمعزل عن حقيقة أن ما يُظهره المقطع لا يُعدّ شيئاً قياساً إلى ما يجري للفلسطينيين في قطاع غزة، رجالاً ونساء وأطفالاً، على أيدي الاحتلال، فإن تأثيراته على الرأي العام كانت واضحة، ولربما مطلوبة، خصوصاً أن بثّه تزامن مع عقد جلسة خاصة لمجلس الحرب، الذي أعطى توجيهاته إلى طاقم التفاوض بالعودة إلى المسار التفاوضي، والعمل على التوصل إلى صفقة مع حركة "حماس". ولعلّ هاتين الخطوتين المتزامنتين تشكلان جزءاً من حملة لترميم صورة القيادة الإسرائيلية في الخارج كما في الداخل، بعد أن تضررت جراء الحرب، واستنفدت صورة الضحية التي بدت عليها بعد عملية "طوفان الأقصى"، وأرادت العودة إليها في ظل طغيان مشاهد القتل والتدمير والوحشية الإسرائيلية، لدى الرأي العام العالمي.
سجّل التحرك المتواصل من قبَل عائلات الأسرى ومؤيديها في شوارع إسرائيل، تنامياً نسبياً في الأسبوعين الأخيرين
على أن تسريب الفيديو سيكون له، في المقابل، تأثيره السلبي على قيادة العدو، كونه أضاف تأثيراً معنوياً لدى الجمهور الإسرائيلي، من شأنه أن يدفع أكثر نحو تقديم ملف الأسرى، ووضعه على رأس الاهتمامات، وليس فقط الاكتفاء بتفهّم موقف أهالي هؤلاء، مع التشديد في المقابل على مواصلة الحرب. كما أن من شأن الخطوة أن تعزز فاعلية عوامل أخرى برزت في الأسبوعين الأخيرين، وفي المقدّمة منها ما أظهرته استطلاعات الرأي من أن معظم الإسرائيليين لا يرون أن الخيار العسكري قادر على تحقيق أهداف الحرب. وعلى رغم ذلك، فإنه على مقلب مؤيدي استمرار الحرب، وخصوصاً منهم اليمين الفاشي الرافض لإنهائها لأسباب عقائدية، فقد طالب أحد أبرز وجوهه، وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، مناصريه بأن لا يشاهدوا الفيديو ولا يتأثّروا به، في ما يدل على قوة وقعه. وهي قوة ليس مردّها ما يتضمنه، أو حتى أنه جاء بعد منع وامتناع عن عرض ما يشابهه منذ السابع من أكتوبر، بل لكونه جاء ليضيف إلى جملة أسباب قائمة أصلاً، وكان يلزمها مؤثّرات عاطفية وألاعيب إعلامية، لتعزيز الموقف الدافع في اتجاه صفقة التبادل.
ويأتي هذا التطور في ظل استمرار الشد والجذب داخل إسرائيل حول مسار الحرب ومصيرها، والمصحوب بضغوط أميركية، اتخذت أحياناً شكل إجراءات وقرارات علنية، بهدف تظهير الخلاف مع تل أبيب، والدفع نحو البحث في مخارج من الحرب بلا إبطاء. ومن بين تلك الضغوط، تهديد حزب «المعسكر الوطني»، برئاسة بني غانتس، بالانسحاب من الحكومة في حال لم يجرِ العمل على اتفاق مع حركة «حماس» يفضي إلى إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين، مع سلّة مطالب أخرى كانت كلها موضع رفض من رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، ومركبات ائتلافه. ويُضاف إلى ما تقدّم، التحرك المتواصل من قبَل عائلات الأسرى ومؤيديهم في شوارع إسرائيل، والذي تنامى نسبياً في الأسبوعين الأخيرين، في محاولة للتأثير على صاحب القرار، ودفعه إلى تليين موقفه، وإن كان ثمن ذلك القبول بشروط «حماس»، علماً أن الحراك المشار إليه يتواصل منذ أشهر بلا نتائج، قياساً بالمأمول من العائلات.
وفي خضمّ هذا التجاذب المتعاظم، لا يجد طرفاه بدّاً من اللجوء إلى الخيارات كافة، بما فيها تلك المتطرفة، بهدف تحقيق ما يراه كلّ منهما المصلحة الإسرائيلية، والذي لا يخفي وجود مصلحة شخصية كذلك. وعليه، يستمر نتنياهو وحلفاؤه في التشبّث بموقفهم حتى طرد آخر فلسطيني من قطاع غزة، فيما يعتقد خصومهم أن الحرب وصلت إلى طريق مسدود، وأن من الضروري البحث في كيفية الخروج منها، عبر أقلّ المخارج سوءاً وأكثرها فائدة لتل أبيب، علماً أن المعسكر الثاني يشمل المعارضة على اختلاف مسمّياتها، ومركبات داخل الحكومة نفسها، ويحظى بتأييد مبطّن من المؤسسة الأمنية والعسكرية، ومعلَن من عدد كبير من الخبراء والمراكز البحثية والمسؤولين السابقين السياسيين والعسكريين، ومعظم الإعلام ومحلّليه.
أما ما سيحدث بعد ذلك، فمن السابق لأوانه تقديره، وما إذا كانت حكومة الحرب تنوي، هذه المرة أيضاً، احتواء الضغوط عبر تحريك ملف التفاوض، من دون أن تكون لديها جدية في التوصل إلى اتفاق، أم أنها ستكون مضطرة إلى قبول المرفوض لديها بالأمس. وعلى أي حال، فالثابت أن نتنياهو وشركاءه لن يغيّروا موقفهم إلا في حال وجدوا حاجة إلى دفع ضرر لا يُحتمل، فهل هم حالياً في هكذا وضعية؟