يشتهر الأميركيون بأنهم لا يهتمون عادة بما يجري وراء المحيطات، من منطلق أن أميركا سيّدة العالم، وهو من يحتاج إليها وليس العكس، وهو من يجب أن ينظر إليها من أسفل إلى أعلى. هذه هي فلسفة تصدير الثقافة الأميركية عبر السينما أو الإعلام أو خلافه. وليس من النادر أن يرتكب حتى كبار الساسة والرؤساء، أخطاء تظهر جهلاً كبيراً بالعالم، ويثار اللغط حولها على سبيل الدعابة لا أكثر، باعتبار أن الأمر ليس مهماً. ولذا ليس من السهل تحريك الشارع في أميركا من أجل قضية تتعلّق بالسياسة الخارجية المحض، ولا تشمل حضوراً مادياً أميركياً مباشراً، من نوع وجود جنود على الأرض، ولا تتسبّب في عودتهم في توابيت إلى الوطن. والقضية الفلسطينية، رغم تاريخها الممتد منذ 80 عاماً، والشراكة الأميركية الكاملة في الجريمة الأصلية بحق الشعب الفلسطيني، لم تكن يوماً من النوع الذي يدعو الأميركيين إلى الحشد في الشوارع أو باحات الجامعات.لكن أنْ تصبح الحرب الإسرائيلية الوحشية على قطاع غزة دافعاً إلى حراك بهذا الحجم في معظم جامعات الولايات المتحدة، ولا سيما تلك المرموقة منها، ويستمر الحراك رغم كل القسوة في القمع وتوجيه اتهامات قضائية إلى عدد من الطلاب، أو فصلهم من الدراسة، فذلك تغيير كبير.
ورغم ما تقدّم، فإن ذلك التغيير لا يمثّل تحوّلاً في سلّم اهتمامات الأميركيين بقدر ما يشير إلى أن ما يجري في غزة صار قضية داخلية أميركية، لأنها سلّطت الضوء على ما يراه الطلاب خللاً كبيراً في النظام الذي يحكمهم، علماً أن الطبقة السياسية في أميركا كلّها، أكثر من الطلاب، جعلت غزة قضية داخلية. فمنذ السابع من أكتوبر، تعمل الإدارة لدعم إسرائيل في الحرب على القطاع، أكثر مما تعمل في القضايا الداخلية الأميركية، وبالتأكيد أكثر مما تعمل في قضايا السياسة الخارجية الأخرى، بما فيها حرب أوكرانيا والتنافس مع الصين. وحتى السجالات بين المرشحين المفترضين للرئاسة تتناول غزة أكثر مما تتناول البرامج الرئاسية للداخل. وعندما تحضر حُزم مساعدات لإسرائيل لقتل الفلسطينيين، في الكونغرس، يتم فوراً إقرارها، ثم يوقّع الرئيس في اليوم التالي، ويصبح الأمر نافذاً. والرئيس جو بايدن أنفق وقتاً على حرب غزة، سواء بزيارة المنطقة أو بالأحاديث مع قادة إسرائيل وغيرهم على الهاتف أو بالاجتماعات مع فريقه للأمن القومي، أكثر مما صرف على أي قضية أخرى، بما فيها حملته الانتخابية. ووزير الخارجية، أنتوني بلينكن، أمضى في الشرق الأوسط مذاك، وفي النقاشات حول ما يجري، أكثر مما مكث في منزله. والأمر نفسه ينطبق على البنتاغون ووزيره، لويد أوستن، الذي قام برحلات عدة إلى المنطقة.
القضية الفلسطينية استوطنت مكاناً في الضمير العالمي لم تصل إليه من قبل


وإذا كانت أميركا منغمسة إلى هذا الحد في دعم عدوان وحشي، بالقنابل الذكية والثقيلة، ضد شعب أعزل لديه أكثر القضايا عدلاً في العالم، فالغريب حقيقة هو أن التحرّك لم يبدأ قبل ذلك. لكن السبب في ما تقدّم، هو بالذات قلّة الاهتمام بالسياسة الخارجية وعدم التأثر المادي بما يجري في فلسطين، وإلا لكان المشهد مختلفاً جداً. أما تحرّك الطلاب الآن، فهو لأنه لم يعد ممكناً للنظام التغطية على شراكته في الجريمة باستخدام عدّة الشغل التي يملكها وتشمل المال والسياسة والإعلام. هكذا، تحول الأمر إلى معركة أخلاقية ضد نظام يزداد تغوّلاً وتوحّشاً كلّما وجد نفسه على وشك أن يُمنى بخسارة، ويدافع بشراسة عن سطوته. ولذا، امتد الحراك إلى الجامعات في كل دولة غربية شريكة في تلك الجريمة التي تُرتكب باسم المجتمعات التي ينتمي إليها هؤلاء الطلاب، ويُدفع ثمن القنابل التي تُلقى على العزّل في غزة من أموال ضرائبهم، وتُستخدم فيها تكنولوجيا تُبتكر في جامعاتهم ويُموّل جزء منها بأقساطهم. ولذا أيضاً، إن أحد المطالب الرئيسية كان وقف استثمارات هذه الجامعات مع أي شركة أو كيان له ارتباط بإسرائيل. وفي حالة الطلاب اليهود المحتجين، يصبح الرابط مباشراً أكثر، والضرر الممكن توقّعه على الذات، أكبر. ومن هنا، كان شعار هؤلاء «ليس باسمنا»، والذي يعني التبرؤ من الجريمة، لا فقط إدانتها. وهو ما يفسر، في الوقت نفسه، ذهاب منظمات يهودية تشارك في قيادة الحراك من مثل «الصوت اليهودي من أجل السلام»، نحو الجذرية عند طرح الحلول لوقف ما يفعله الصهاينة باسم اليهود، حيث تضع في برنامجها على موقعها الإلكتروني أن الحل يكون بدولة فلسطينية واحدة من النهر إلى البحر، لا يكون فيها اليهود مضطرين إلى التجنّد في الجيش لقتل السكان الفلسطينيين.
يصعب أن يؤدي الحراك الطالبي إلى تغيير جوهري في السياسة الأميركية، ولكن الأكيد أن القضية الفلسطينية استوطنت مكاناً في الضمير العالمي لم تصل إليه من قبل، وصار واضحاً أن التنكّر للحقوق الفلسطينية يساوي القبول بانعدام العدالة، جهاراً نهاراً، ولذلك لا يمكن أن يستقرّ حلّ فيه مثل هذا التنكّر. في فيتنام انتهت القضية بانسحاب أميركي، وفي جنوب أفريقيا بالتخلي عن النظام والسماح بسقوطه، وفي الحالتين ظلّت أميركا هي هي؛ ولكن إسرائيل ليست الأولى ولا الثانية، بل سقوطها يعني انهيار نظام عالمي كامل استغرق بناؤه حربين عالميتين وعشرات ملايين القتلى وتحويل مدن إلى رماد. وعليه، فإن أقصى ما يمكن انتظاره من الحراك هو أن يسهم في دفع الإدارة، استنقاذاً لشيء من سمعتها أولاً، إلى تسريع وقف المجزرة التي ستتوقّف في أي حال، طال الزمن أو قصر. ومع ذلك، صارت فلسطين قضية داخلية أميركية تؤثر في الانتخابات، ولا سيما أن الانتخابات الرئاسية والنصفية للكونغرس وحكام الولايات وبرلماناتها، ستجري بعد أقل من نصف عام. لكن، عندها سيصطدم الطلاب مرّة جديدة بنظام الحزبين المموّل جيداً من قبل الحركة الصهيونية، والذي يقفل الأبواب في وجه أي مراجعة تسفر عن تعديل في السياسة تجاه إسرائيل.