حديث الوسطاء عن تقدّم في المفاوضات غير المباشرة بين دولة الاحتلال وحركة «حماس» للتوصل إلى اتفاق على تبادل الأسرى، لا يعني أن الاتفاق بات وشيكاً؛ فالهوّة ما زالت كبيرة بين مطلب الحركة إنهاء الحرب، ومطلب إسرائيل إقفال ملف الأسرى فحسب، وإن كانت تل أبيب قد أبدت، وفقاً للتسريبات، استعدادها لتليين مواقفها، التي لا تشمل إلى الآن الموافقة على إنهاء الحرب. ومنذ نجاح اتفاق تبادل الأسرى السابق، في تشرين الثاني الماضي، لم ينجح الوسطاء في بلورة اتفاق يحظى بقبول الجانبين؛ إذ أرادت إسرائيل أن تجعل من صفقة التبادل أداة لسحب ورقة الأسرى من يد «حماس»، مقابل هدنة مؤقتة لأسابيع معدودة، على أن تُستأنف الحرب في أعقابها، وهو ما لم يتوافق مع تطلّعات الحركة إلى وقف إطلاق النار وما يرتبط بذلك من مطالب.والواقع أن "حماس" أبدت مرونة ملحوظة في سياق الجولات الماضية، عبر القبول بتقسيم الاتفاق المفترض إلى مراحل، على أن تتلقّى في كل مرحلة ثمناً متناسباً مع عدد الأسرى الذين تفرج عنهم، ونوعيتهم، مع اشتراط أن يكون ثمن المرحلة الأخيرة إنهاء الحرب وعودة النازحين الفلسطينيين إلى شمال قطاع غزة وإعادة الإعمار، إلا أن إسرائيل أحبطت تلك المرونة، وأنهت المفاوضات بلا نتائج. فهل نتيجة المفاوضات هذه المرة ستكون مغايرة؟ يتجاذب الإجابة أكثر من عامل وسبب، وإن كان يجدر الحذر من الحديث عن تقديرات متفائلة، في ظل مفاوضات الأشهر الثلاثة الأخيرة على الأقل، والتي فشلت كلها رغم جرعات التفاؤل المفرط التي رافقتها.
الأكيد أن أحد أهم الأسباب التي دفعت الجانب الإسرائيلي إلى إفشال جولات التفاوض في الفترة الماضية، وربما تدفعه إلى إفشال الجولة الحالية أيضاً، هو مطلب إنهاء الحرب، والذي يعني إقراراً رسمياً بالفشل، الذي لا يريده ولا يقوى على تحمّل تبعاته، رأس الهرم السياسي في تل أبيب، بنيامين نتنياهو، الذي سيكون في حينه مضطراً لمواجهة التداعيات السلبية لعجز إسرائيل الدولة، عن تصفية الحركة. ويساعد نتنياهو في تصليب مواقفه، أكثر من عامل، وإن كان أبرزها ثلاثة:
- شركاؤه في الائتلاف من اليمين الفاشي الذين يريدون مواصلة الحرب بوصفها مقدّمة لازمة لطرد الفلسطينيين من القطاع أو أجزاء منه، لإعادة السيطرة عليه وضمّه إلى إسرائيل. ويسمح ذلك لنتنياهو بالمناورة والمراوغة أمام الضغوط لإنهاء الحرب، ورفض اشتراط إنهائها ضمن صفقات تبادل الأسرى، وإن في مراحل لاحقة، في حين أن الشركاء الآخرين في الائتلاف، هم أعداد فائضة في حكومة لا تسقط بانسحابهم منها، وهم فعلياً ينتظرون سقوط رئيسها للجلوس مكانه، ما يُفقِد هؤلاء القدرة الفعلية على التأثير.
السبب الأول لإفشال إسرائيل الجولات السابقة، وربما الجولة الحالية، هو مطلب إنهاء الحرب


- العامل الأميركي الذي بإمكانه، في حال قرّرت واشنطن، إنهاء الحرب في هذا الاتجاه أو ذاك، لا يُعد إلى الآن مؤثراً لدى نتنياهو بما يكفي لدفعه إلى اتخاذ قرارات لا تتوافق مع مصلحته الشخصية، وما يراه أيضاً في مصلحة إسرائيل الدولة. فضغوط واشنطن التي لا تزال في معظمها كلامية، وإن كانت جادة، هي ضغوط بلا أسنان، في حين أن ما يدفع نتنياهو إلى الرضوخ لما تراه أميركا في مصلحة إسرائيل، هو أن تُقدِم واشنطن على إجراءات عقابية تضرّ بمصالح الأخيرة، وهو ما يُعدّ لدى الجانب الأميركي خطاً أحمر لا يمكن الإقدام على تجاوزه، الأمر الذي يُدركه نتنياهو جيداً، وهو يعرف كيفية المناورة أمامه باحتراف.
- في الموازاة، لا يبدو إلى الآن، باستثناء جمهور محدود من أهالي الأسرى ومؤيديهم، أن معظم الإسرائيليين يبالون أساساً، بإنهاء الحرب التي تراجع تأثيرها السلبي عليهم، وتحديداً في وسط الكيان، حيث التأثير الفعلي على صانع القرار في تل أبيب، وهو ما يستفيد منه نتنياهو أيضاً في مواصلة تعنته.
في مقابل ذلك، ثمة عوامل معاكسة يفترض أن تؤدي إلى تليين موقف إسرائيل، وهي التالية:
- الخيار العسكري استنفد، بمعنى أن العملية العسكرية لم تعد تحقّق أي نتيجة إضافية، واستُهلكت تماماً من دون تحقيق أهدافها التي وضعت ونُفّذت لأجلها، بل بات استمرارها يقضم من إنجازاتها التكتيكية.
- العجز عن إيجاد بدائل تُكمل ما أنجزته إسرائيل ميدانياً، عبر إحلال السلطة الفلسطينية مكان «حماس»، مع الأمل في بلورة مسار ينهي الحركة أو في حد أدنى يمنع إعادة ترميم قدراتها وسيطرتها على القطاع، والتي تعود لتظهر في كل مكان تنسحب منه إسرائيل حالياً. والفشل في ذلك مركّب ومتشابك: فلا إسرائيل تريد، ولا السلطة الفلسطينية قادرة، على الحلول مكان «حماس»، على رغم إرادة واشنطن والأنظمة العربية، فيما لا قدرة لكيانات وجهات محلية من عشائر وعائلات على استبدال المقاومة. وأما شركاء إسرائيل من العرب فغير مستعدّين للمجازفة بالسيطرة المباشرة على القطاع، فضلاً عن خشية إسرائيل وعدم قدرتها على حكم غزة وإعادتها إلى سيطرتها، كما كان عليه الوضع قبل عام 2005.
- وجود وعود، كما يبدو من التسريبات، بإمكان الدفع نحو التطبيع مع السعودية في حال أنهت إسرائيل الحرب التي باتت أيضاً تُثقل على الأنظمة العربية، التي أصيبت بخيبة أمل بعد أن أمِلت كثيراً في أن ينهي الجيش الإسرائيلي المهمة بنجاح في القطاع. إلا أن هذا الخيار، أي التطبيع، مُثقل كذلك، نتيجة الفشل في غزة، بشروط لا يقوى عليها نتنياهو، ما يصعّب ويحيّد، إلى الآن، تأثيره على قراراته.
- سخونة الجبهات الأخرى التي تساند المقاومة الفلسطينية في صدّها للجيش الإسرائيلي، ومن بينها الجبهات اللبنانية والعراقية واليمنية، وكذلك الإيرانية، التي لن تنتهي ولن تهدأ إلا مع وقف الحرب على قطاع غزة، وهو عامل مركّب، يؤثّر سلباً في مصالح إسرائيل وراعيها الأميركي، علماً أنه في قياس القوة وموازين تأثيراتها، فإن جبهات المساندة تحضر بقوة كبرى في مرحلة التفاوض على بلورة مسارات الاتفاقات وإنهاء الحرب، مما هي في مراحل الحرب والقتال.
بين هذا وذاك، ستتبلور قرارات إسرائيل الرسمية، وإن كانت فترة ما قبل الإعلان عن نجاح أو فشل المفاوضات الحالية، تشهد الكثير مما حصل في الفترات السابقة. وعلى أي حال، فالمؤكد إلى الآن، وهو ما يُبنى عليه، أن صمود «حماس» أمام الضغوط، الميدانية كما السياسية، يثمر فوائد ومكاسب، وهو ما يُلاحظ بقوة ووضوح في تليين مواقف إسرائيل، وإن ليس بما يكفي، الأمر الذي يمكن البناء عليه للتفاؤل بنتيجة نهائية، تصبّ في مصلحة الفلسطينيين.