المشهد الأول: شهيق... زفير
الزمان: زمن البعد الثالث - زمن النُطَف المحرّرة
المكان: قاعة المحكمة المركزية، الناصرة المحتلة
بينما كان وليد يعاني من آثار الالتهاب الرئوي الذي أصابه، محاولاً بصعوبة أخذ الشهيق وإخراج الزفير، وبادياً عليه الإنهاك من جرّاء السفر في صندوق الموتى، والذي ليس إلا «بوسطة» نقل الأسرى من سجونهم إلى قاعات المحاكم، كان عقله الفذّ يصيغ كلمات مرافعة سيقدّمها أمام قاضي المحكمة الصهيونية، لتكون المرافعة الأكثر إنسانية وأخلاقية في القرن، والتي دُوّنت وقائعها لاحقاً في نص بعنوان «ميلاد». لاحقاً، غصّت قاعةُ المحكمة بالحاضرين الذين كانوا بغالبيتهم من الأقارب وبعض الصحافيين، ثم جاء وليد مقيَّد اليدين والرجلين، ملوّحاً لسناء بينما تواصل حرارته الارتفاع، وتزداد أنفاسه ثقلاً. فكّوا قيدَه ووقف، فسأله القاضي: «ماذا تريد؟»، ليجيب: «أنْ أصنعَ حياة».
وقف الادّعاء معترضاً، وقال إن في هذه الحياة خطراً يهدّد أمن الدولة. ثم أومأ إلى رجل وامرأة من الاستخبارات العامة، ليسلّما القاضي مغلّفاً، تبيّن لاحقاً أنه يحتوي ملفَّين من «الشاباك»، وفحواه أن التقاء زمن سناء بزمن وليد الموازي مؤامرةٌ تهدّد أمن دولة العرق واستقرارها. عندها وقف وليد، وجال بنظراته في القاعة، ثم قال باللغة العبرية: «هذا أوّل ملفّ لمولود لم يولد بعد، يُفتح في الشاباك. فهل نطفةٌ تهدّد أمنَكم القومي؟ أيّ أمن هذا الذي تهدّده نطفة؟». وأضاف وهو يتّكئ على الفاصل الزجاجيّ منهَكاً: «أيّ أمن قومي هذا الذي يزعزعه مشروعُ حياة؟ يا سيادةَ القاضي، إن أمناً من هذا القبيل هو أمنٌ هشّ. ونظريته الأمنية تذكّرنا بنظرية أمنية لدولة من منتصف القرن الماضي، اعتبرت تكاثر جنس بعينه تهديداً لها. والتاريخ يعلّمنا أن الدولة التي اعتبرت ثغاء الأطفال ثغرة أمنية يجب إسكاتها، كان مصيرها التفكّك الأخلاقي والزوال. فالحياة أقوى من الخوف».
وتابع: «وردّاً على أوراق الملفّ السرّي الذي أمامكم، أقول إن المرأة العربية، يا سيادة القاضي، تلد - تماماً كنسائكم - أطفالاً! لا دليل علمياً واحداً على عربية وَلَدت عبوة، فلماذا كل هذه الملفّات السرّية؟ ولماذا يُستدعى ممثلون عن جهاز الأمن العام، بدلاً من طبيب ولادة أو قابلة؟ ولماذا لم تستدعوا أصلاً خبير متفجرات؟ أنا أعرف ما الذي ستقرّره محكمتُكم. لهذا أسمحُ لنفسي باستباق الأمور، وبتقديم مثل هذه المداخلة، التي ما كان لعاقل غيري أن يقدمها لأنها - في منطق محاكمكم - تستعدي المحكمة. لكن حين يسمح قضاؤكم باستعداء مخلوق لم يولدْ بعد، فإنّ ما يُصدره لم يعد يعنيني لأنه غير أخلاقي». 
في هذه اللحظة، ضجّ القاضي، ودعا وليد إلى أن ينهي حديثَه. فأكمل: «عموماً، ابني أو ابنتي، مولودي، الذي سأسمّيه ميلاد، قد يؤلّف اللحن الذي لم يُلحن بعد، وقد يصبح أو تصبح عالم فلك، أو ربّما يكتشف دواءً للسرطان، أو ربّما سيجد ما عجزتْ أجيالنا عنه، وهو التوصّل إلى حل للصراع، حتى يكون سلاماً وأمناً حقيقيَين، بدلاً من أمنكم الموهوم. لهذا، يا سيادة القاضي، قرارُكم السلبي الذي ستتّخذونه سيمنع حياةً، وأنا أصنعُ حياة. وبين مَن يصنع حياةً، ومَن يمنعُها، فارق ومسافة أخلاقية، وإنْ كان الأوّل سجيناً والثاني قاضياً!».
ناضل وليد رفقة سناء على مدى 12 عاماً، لنيل قرار يسمح لهما بالحصول على حقّهما في إنجاب طفل


المشهد الثاني:
شهيق... زفير
الزمان: العاشر من آب 1999
المكان: سجن عسقلان
في مشهد سريالي، يجلس وليد وإلى جانبه سناء في غرفة صغيرة في سجن عسقلان، يتنفسان بسرعة وبانسيابية يحفزهما الفرح، بينما يتوسطهما شيخ لعقد قرانهما. ومن حول الثلاثة، يقف المقرّبون من عائلة الاثنين، و9 من الأسرى هم رفاق وليد في السجن. ومن أمام الجميع، تلتقط عدسات الكاميرا هذه اللحظات الاستثنائية، لتوثّقها بوصفها سابقة في تاريخ الحركة الأسيرة، تجسّد انتصاراً لجوهر الأسير الإنسان قبل الأسير المناضل.
منذ أن انتزع وليد وسناء حقّهما في الزواج، مكلّلَين نجاحهما هذا بحفلة كسرت الحالة النمطية لغرف السجون، وبعثت الأمل في قلوب ساكنيها، كان أمامهما هدف آخر يسعيان إلى تحقيقه، وهو العائلة. ومن هنا، بدأ الاثنان يخوضان غمار معركة جديدة، عنوانها: ميلاد. ناضل وليد، رفقة سناء، على مدى 12 عاماً، لنيل قرار يسمح لهما بالحصول على حقّهما الأساسي والطبيعي في إنجاب طفل، وقد قوبل طلبهما برفض وتعنّت من قِبَل سلطة السجون الإسرائيلية، بدعوى أن الأسير لا يزال على اتصال مع «تنظيمات معادية» لـ«دولة إسرائيل». لكنهما لم يستسلما، وقرّرا تحدّي الظلم حتى الرمق الأخير، ليتمكّنا من «تحرير نطفة» اخترقت جدران السجن عام 2019، وكسرت جمود الزمن الموازي فيه، لتخرج طفلتهما إلى الوجود في الثالث من شباط من عام 2020، حاملة اسم ميلاد وليد دقة، وليصبح وليد أباً في الـ57، وسناء أماً في الـ50.
مذّاك، بدأ استهداف وليد بشكل علني، حتى لا يَخرج من السجن - إذا ما خرج يوماً - حيّاً. و«السجن كالنار، يتغذّى على حطام الذاكرة... وذاكرتي، يا مهجة القلب، غدت هشيماً وجف عودها... أهرّبها مدوّنة على ورق حتى لا تحترق بنار السجن والنسيان. أمّا أنتِ، فأنت أجمل تهريب لذاكرتي... أنتِ رسالتي للمستقبل»، كما قال وليد في نصٍّ كَتَبه عام 2011 من داخل المعتقَل.

المشهد الثالث:
شهيق... زفير
المكان: غرفة الزيارة في سجن جلبوع
الزمان: عام 2021
كان سجن جلبوع بأكمله في حالة توتّر وترقّب؛ إذ أراد الأسرى جميعهم حضور مشهد استقبال وليد لابنته، لأول مرة بين يديه. طلب الأسير من زوجته أن تجعل ميلاد تدخل غرفة الزيارة بنفسها، من دون أن تحملها هي، حتى يراها بالكامل، فيما سيكون هو في الغرفة في انتظارها بين اثنين من الأسرى، كما طلب من سناء أن تسألها عندها: «وين بابا؟». هكذا، دخلت ميلاد مشياً على قدميها، ولكن مَن لم يكن واقفاً على قدميه، باكياً ومتنفّساً بسرعة عالية شهيقاً فزفيراً، هو وليد وكل الأسرى الموجودين في الغرفة وخلف الزجاج.

المشهد الرابع:
شهيق... زفير
المكان: مستشفى «آساف هاروفيه» في الداخل المحتلّ
الزمان: 7 نيسان 2024
في ساعات المساء، كان وليد دقة، المصاب بسرطان النخاع الشوكي، والذي تعرّض منذ 7 أكتوبر الماضي، للتعذيب والإهانة والإهمال الطبي، يلفظ أنفاسه الأخيرة وحيداً، شهيقاً فزفيراً، فيما وجه ميلاد وحضنها يداعبان خياله، ليستشهد كاسراً جمود العالم الموازي، ومحلّقاً إلى عالم أكثر حرّية وعدالة.