كان لافتاً في الأسبوع الماضي ظهور تقارير «فجأةً» حول حجم الأضرار في مستعمرة المطلّة الحدودية بين لبنان وفلسطين المحتلّة (بسبب قصف المقاومة اللبنانية لها)، على وسائل إعلام ووكالات أخبار عالمية أبرزها وكالة «فرانس برس» التي عنونت «لا خيار آخر»، واقتبس عنها عدد كبير من الوسائل، مضفيةً عليها طابعاً «إنسانيّاً» بأخذ مقابلات من مستوطنين صهاينة زعمت أنّهم لا يريدون سوى «العيش بسلام»، ومتجاهلةً السياق التاريخي، لا في ما يتعلّق بالقضية الفلسطينية فقط، بل أيضاً في سياق قرية المطلّة التي تُعتبر جزءاً منسيّاً من تاريخ لبنان.لكنّ الأمر لم يكن مصادفة؛ إذ أتى بعد جولة أقامها يوم الثلاثاء الماضي مركز «آلما» الإسرائيلي بالشراكة مع سلطات الاحتلال، في مستوطنتَي المطلّة و«كريات شمونة» (قرية الخالصة المحتلّة) الحدوديّتَين مع لبنان، لنحو عشرين صحافيّاً ومصوّراً إسرائيليّاً من وكالات أنباء عالمية ووسائل إعلام عبرية. في المقابل، تمنع قوّات الاحتلال الصحافيّين في الطرف المقابل من الحدود مع لبنان من الاقتراب وتصوير الأضرار الفادحة التي تسبّب بها، بقوّة النار، وقد استشهد ثلاثة صحافيّين لبنانيّين وأصيب آخرون بنيرانه منذ ثارت «هستيريا» العدوّ بعد «طوفان الأقصى».
بدأت «فرانس برس» تقريرها بتناول رئيس بلدية المطلّة دافيد آزولاي الذي قالت إنّه بقي شبه وحيد في المستوطنة ويقيم في ملجأ لأنّه «شعر بواجب البقاء في الخلف ورصد الأضرار التي يتسبّب بها «حزب الله» اللبناني وهو يطلق الصواريخ والغارات دعماً لـ «حماس»، حليفه المرتكز في غزّة». ونقلت عن آزولاي قوله إنّ «الحلّ الوحيد قد يكون القتال بلا قيود لإبعاد «حزب الله» من الحدود وجعل المنطقة آمنة لعودة الإسرائيليين الذين تم إجلاؤهم». وأضاف بحسب الوكالة: «لا أرى طريقة أخرى لعودة السكّان بأمان إلى منازلهم هنا. لقد سئمنا الحرب، لكن ليس لدينا خيار آخر الآن. إنّهم يطلقون النار على منازل مدنيّين لا قواعد الجيش». ومن هنا استوحت الوكالة عنوان تقريرها «لا خيار آخر».

محد قاسم (هولندا/ فلسطين)

ولئن حاول التقرير بعد ذلك «الموازنة» في الموقف وادّعاء الموضوعية، إلّا أنّه لم يفلح. إذ إنّ «الموضوعية» عند الوكالة، كما غالبية الإعلام الغربي، تشكّل انحيازاً بحدّ ذاتها، فيتمّ استخدام تعابير مثل «النزاع» و«وزارة الصحّة في غزّة التي تحكمها حماس» والتذكير بـ«قتل المدنيّين في 7 تشرين الأوّل (أكتوبر)» من دون الإشارة إلى قاتلهم الذي أشارت تقارير عدّة إلى أنّه قوات الاحتلال نفسها. فكيف إذا كان التقرير كتبه إسرائيلي، حول الأضرار في مستوطنة، بعد جولة أقامتها له سلطات الاحتلال؟ أليست هذه مخالفة للمعايير المهنية من إحدى أكبر وكالات الأنباء في العالم وأكثرها ادّعاءً بالحرص على هذه المعايير، وصولاً إلى تنصيب نفسها مدرسةً في هذا المجال تجوب العالم بحثاً عن صحافيّين «تدرّبهم»؟
وتحت عنوان «لا أنام الليل»، نقلت «فرانس برس» عن ضابطة الاستخبارات العسكرية السابقة ساريت زيهافي، وهي مؤسِّسة مركز «آلما» ورئيسته لكنّ الوكالة لم تذكر ذلك، قولها إنّه «رغم عدم موافقة كثير من المحلّلين، إلّا أنّ فكرة أنّ «حزب الله» يحاول إثارة الحرب شائعة بين الإسرائيليّين في الشمال حيث نزح عشرات الآلاف، ما أدى إلى تحويل 43 مجتمعاً إلى مدن أشباح». وأضافت خلال محاضرة ضمن الجولة الصحافية: ««حزب الله» يفضّل جرّ إسرائيل إلى الحرب بدلاً من المبادرة إليها، لكنّه لا يزال قادراً على التسلّل. لا أنام الليل قلقةً من أن ينتهي بنا المطاف بوقف لإطلاق نار لن يقضي على هذه القدرة بشكل كامل». نقلت الوكالة عن هاميش كينير، الذي وصفته بكبير محلّلي شؤون الشرق الأوسط في شركة «فيريسك مابلكروفت»، أنّه «من غير المرجّح أنّ «حزب الله» يرغب في حرب واسعة النطاق لأنّه لن يكون هناك عنصر المفاجأة، وهو أمر ضروري للجماعة عندما يكون ميزان القوة العسكرية غير متكافئ. شنّ إسرائيل حرباً واسعة لا يزال غير مرجّح في ظلّ الإبقاء على توجيه تركيزها ومواردها لمحاربة «حماس»». وفي محاولة للبقاء ضمن قالب «الموضوعية» العتيدة، أورد التقرير أنّ «الأضرار على جانبَي الحدود حقيقية»، ناسباً ذلك إلى «محلّلين»، وأكمل بقول الباحث في «معهد دول الخليج العربية في واشنطن» حسين أيبش إنّ «تصرّفات إسرائيل، وليس «حزب الله»، هي التي تصاعدت بشكل متزايد، بما في ذلك الهجمات على بعلبك على بعد نحو 100 كيلومتر من الحدود».
وتحت عنوان «نستحقّ السلام»، سرد التقرير حجم الأضرار البشرية، وبدا واضحاً أنّه يرى من نظّارات كيان الاحتلال، فأورد أنّ «أكثر من 300 شخص في لبنان قُتلوا، معظمهم مقاتلون من «حزب الله»، بحسب حصيلة AFP»! هكذا، تغاضت الوكالة عن الشهداء المدنيّين في لبنان الذين تجاوز عددهم المئة، وبرّرت قصف الاحتلال للبنان بأنّه لا يصيب سوى «مقاتلين». ولزيادة الطين بلّة، أكمل التقرير بأنّ «عشرة جنود إسرائيليّين على الأقلّ وسبعة مدنيّين لقوا حتفهم في تبادل إطلاق النار بحسب الجيش (الإسرائيلي)»، ضارباً بذلك عصفورَين بحجر؛ فمن جهة برّر العدوان الإسرائيلي، ومن جهة أخرى ساند الاحتلال في تكتّمه على خسائره لإظهار أنّه «الأقوى»، رغم أنّ المقاطع التي ينشرها «الإعلام الحربي» وحدها تُظهر أضعاف هذا العدد من الجنود القتلى. فوق ذلك كلّه، أورد التقرير أنّ «هجوم حماس في 7 أكتوبر تسبّب في مقتل 1160 شخصاً، معظمهم من المدنيّين، بحسب حصيلة AFP لأرقام إسرائيلية رسمية»، من دون ذكر للتقارير التي أثبتت قصف قوات الاحتلال للمستوطنين خلال «الضياع» الذي رافق العملية. في المقابل، صاغ التقرير الأرقام الفلسطينية على الطريقة التالية: «أدّت الحملة العسكرية الإسرائيلية الانتقامية من أجل تدمير «حماس»، إلى مقتل ما لا يقلّ عن 31923 شخصاً، معظمهم من النساء والأطفال، وفقاً لوزارة الصحّة في الأراضي التي تديرها «حماس»». أي إنّ الأرقام الإسرائيلية بالنسبة إلى «فرانس برس» دقيقة يمكنها التثبّت منها بنفسها فقط عبر «تصديق» سلطات الاحتلال، لكن لا يمكنها التثبّت من الأرقام الفلسطينية كونها صدرت عن «وزارة تديرها حماس». هل هذه هي الموضوعية؟
تقرير «فرانس برس» لم يكن وحده، لكنّه كان الأكثر انتشاراً بما أنّ الكثير من وسائل الإعلام العالمية والإسرائيلية نقلت عنه، بما فيها «فرانس 24» و«تايمز أوف إسرائيل». الجولة الصحافية في المطلّة أتت كمحاولة جديدة من العدوّ لبثّ البروباغندا الخاصّة به، بعد الفشل المتكرّر في كسب معركة الرأي العام العالمي التي يخسرها يوماً بعد يوم حتّى باتت الغالبية العظمى من جيل الشباب ضدّه، حتّى في الولايات المتّحدة الأميركية. في المقابل، لا جولات إعلامية على الضفة اللبنانية، حيث أُجبر الصحافيّون على الابتعاد عن الحدود بعد سلسلة حوادث استهدفهم فيها العدوّ، ما قلّص النقل الإعلامي لما يتسبّب به العدوّ في داخل الأراضي اللبنانية.
خالفت «فرانس برس» المعايير المهنية، وقابلت ضابطة إسرائيلية سابقة من دون ذكر علاقتها بمركز «آلما»


لا تقتصر أبعاد الجولة التي قام بها العدوّ على محاولة لعب دور الضحية و«أنسنة» مستوطنيه وحتّى مؤسّساته العسكرية، بل تتعدّاها إلى نقاط أوسع يمكن استخلاصها. أوّلاً، اعترف العدوّ أمام العالم وبدعم من الغرب وصحافته، أنّه يستهدف الصحافيّين بالنار طالما أنّهم لا يرتهنون لسرديّته، ويمنع عنهم أدنى حقوقهم وهي التجوّل والوصول إلى المعلومات. في المقابل، فقد شهد عن غير قصد لعقلانية المقاومة في لبنان وإنسانيّتها، إذ أثبت أنّها لا ولن تستهدف الصحافيّين مهما كانت هويّتهم، ويمكنهم التجوّل في مستعمرة مثل المطلّة من دون أن تتعرّض لهم لاحترامها القوانين الدولية، ولا سيّما تلك المتعلّقة بحرّية الصحافة. وهذا أيضاً ما يشكّل هدفاً للمقاومة في مرمى خصومها الداخليّين الذين لا ينفكّون يتّهمونها تعسّفيّاً باستهداف الصحافيّين و«القمع» و«الإسكات» وغيرها من التّهم، فيما يسرحون ويمرحون ويشتمون من دون أن يقترب منهم أحد، ويدافعون عن دول وكيانات تستهدف الصحافيّين. ثانياً، يطرح توقيت الجولة علامات استفهام عديدة: لماذا الآن بعد ما يقرب من ستّة أشهر على الحرب؟ هل للأمر علاقة بالرأي في كيان العدوّ الذي يدعم التوغّل في لبنان، أم بالهدنة المنتظرة التي ازداد الحديث عنها أخيراً، أم بالخسارات المتكرّرة للعدوّ في الحرب الإعلامية؟ ثالثاً، هل يحاول العدوّ إخفاء خسائره العسكرية والتعتيم عليها عبر اتّهام المقاومة باستهداف «المدنيّين»، وهل يؤرّقه «الإعلام الحربي» إلى هذه الدرجة؟



المطلّة جزء من تاريخ لبنان
رغم عدم احتسابها ضمن «القرى السبع» اللبنانية المحتلّة، إلّا أنّ المطلّة كانت تُعدّ امتداداً طبيعيّاً لقضاء مرجعيون، وجزءاً منه خلال حقبة الاحتلال العثماني. لقرون، كانت المطلّة الشريان الذي يصل بين عشائر الموحّدين الدروز في وادي التيم وقرى الجليل امتداداً إلى العمق الجولاني. وكان لهم صراع على الأرض والماء مع بدو حوران الذين اصطفّت الدولة العثمانية غالباً معهم، إلّا أنّ امتداد العشائر وتضاريس المنطقة التي تواجدوا فيها شكّلتا حصناً منيعاً على جندرمة العثمانيّين. لكنّ محاولات الأخيرين للتخريب لم تستكن، ما استدعى الإقطاعي الصيداوي جبّور رزق الله لاستملاك أرض المطلّة، قبل أن يبيعها عام 1875 بعد نزاع مع أهلها، إلى البارون الصهيوني روتشيلد، بسعر بخس لم يتجاوز الثلاثة آلاف ليرة عثمانية. عندها، أرسلت المؤسّسات الصهيونية تاجراً يهوديّاً سكن البلدة وأخذ يسلّف المزارعين المجبرين على دفع الضرائب للدولة العثمانية، وعند فساد الموسم وعجزهم عن الدفع استولى على أراضيهم إلى أن استملك معظمها. بحلول عام 1895 كان العثمانيّون نفوا أو جنّدوا قرابة ألف من رجال المطلّة المقاتلين، ففرغت القرية من معظم أهلها الذين فوجئوا عند عودتهم باستيطان محتلّين يهود فيها، لتنطلق جولات اقتتال بين أهل الأرض ومحتلّيها من صهاينة وعثمانيّين استمرّت لسنوات، وكان من أبرز رموزها زعيم القرية الشيخ علي الحجّار، الذي جنّب القرية محاولة حصار عثمانية، ما أغضب الجيش العثماني بعدما أُجبر على الانسحاب إلى الليطاني. عندها، بادر متصرّف جبل لبنان آنذاك يوسف فرانكو باشا إلى استدعاء الحجّار إلى مرجعيون لمقابلة قائممقامها العثماني رفعت بلبان، حيث حصل الحجّار على تعهّد من نسيب باشا جنبلاط (شقيق نجيب، جدّ كمال جنبلاط). وعاد الحجّار مساءً بمفرده إلى قريته، إلّا أنّ فرسه وصلت صباحاً من دونه، قبل أن يعُثر عليه مقتولاً قرب نبع الدردارة. لم يُعرف من قتل الشيخ الحجّار، إلّا أنّ استشهاده ضيّع المطلّة، فوقعت تسوية نقلت معظم سكّانها إلى قرية الماري (قضاء حاصبيا)، ومعظم سكّان الماري اليوم من المتحدّرين من المطلّة. هكذا، فإنّ المطلّة قرية لبنانية سورية فلسطينية محتلّة، وإنّ أيّ جولة إعلامية «تؤنسن» المستوطنين الصهاينة لا تعدو كونها محواً لتاريخ هذه القرية ورقصاً على قبور سكّانها الأصليّين، واستفزازاً أوّلاً لأهلها الممنوعين من العودة وثانياً للصحافيّين في لبنان الممنوعين من التواجد حتّى في كفركلا.


ما هو ALMA؟
أسّست مركز «آلما» ضابطة الاستخبارات العسكرية السابقة ساريت زيهافي التي ترأسه أيضاً. زيهافي خدمت في قوات الاحتلال لـ15 عاماً، وهي تحمل شهادة الماجستير في دراسات الشرق الأوسط من «جامعة بن غوريون». عملت في مشورة صحافيّين وأعضاء في مجلس الشيوخ الأميركي والكونغرس وشخصيّات أخرى كثيرة، وتركّز في كتاباتها على لبنان وسوريا و«تحدّيات الأمن القومي لإسرائيل»، وتقول إنّها متخصّصة في تاريخ «حزب الله» الحديث. يعرّف «آلما» عن نفسه بأنّه «مركز تعليم وأبحاث غير هادف للربح مخصّص للبحث في التحدّيات الأمنية على الحدود الشمالية لإسرائيل ومشاركة استنتاجاتنا مع العالم. نركّز على صنّاع الرأي ومراكز الأبحاث والأوساط الأكاديمية وجميع المهتمّين بتقدير متعمّق للتعقيدات متعدّدة الأبعاد في الشرق الأوسط». ويضيف المركز على موقعه الإلكتروني بأنّه يفتخر «بتقديم منظور أصيل وفريد ومهني في ما يتعلّق بالمناطق الواقعة على جانبَي حدود لبنان وسوريا وإسرائيل. ويمزج بحثنا بين التنوّع الخاصّ للمجتمعات على طول تلك الحدود مع الجغرافيا والسياسة والقدرات العسكرية، وكلّها مجتمعةً». وفي نظرة سريعة على محتواه، يمكن ملاحظة كيف أنّ معظمه يركّز على حزب الله و«المخاطر» من لبنان، ويهاجم المقاومة بطريقة تثبت بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّ المركز أداة في يد المؤسّسات الأمنية والاستخبارية في كيان الاحتلال، بما أنّ غالبية باحثيه ممّن خدموا في قوات الاحتلال أساساً.