ما لم تحصل متغيّرات مفاجئة، يبدو أن الهدنة المؤقتة في قطاع غزة ستتبلور خلال أيام قليلة. وإذا كانت دولة الاحتلال لا تزال تُبدي ممانعة وتطيل أمد التفاوض سعياً إلى الحدّ من مطالب حركة «حماس»، إلّا أنها ستوافق، في نهاية المطاف، على الهدنة، التي تَفرض على جيشها ستة أسابيع من الهدوء النسبي. وكانت الحركة قد أعطت العدو سُلّماً طويلاً للنزول عن الشجرة العالية التي تسلّقها، وذلك عبر تليين مطالبها، وترحيل جزء منها إلى المرحلة الثانية، أو الاتفاق النهائي، وتحديداً مطلب الانسحاب الكامل من القطاع، الأمر الذي يسهّل على المستوى السياسي الإسرائيلي، التساوق مع جهود تعليق القتال، وإنْ كان معنيّاً أن يبدي رفضاً نسبيّاً لهذا المطلب أو ذاك، لزوم توسيع هامش المناورة لديه، لدى بلورة الاتفاق النهائي على وقف إطلاق النار، وإطلاق الأسرى من الجانبَين.وكما يُفهم من تصريحات رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو - من دون الالتفات إلى تصريحات شركائه في الائتلاف من اليمين الفاشي تحديداً -، فإن التشدّد والتسويف وإطالة زمن التفاوض، مرتبط أساساً باليوم الذي يلي، أكثر من كونه متّصلاً بالاتفاق الجزئي الحالي؛ إذ يتّضح أن العدو يسعى أيضاً إلى التخفيف من مكاسب حركة «حماس» في الاتفاق النهائي، ليس عبر الحدّ من قدرتها على «تبييض السجون»، أي تنفيذ معادلة «كلّ الأسرى مقابل كلّ الأسرى»، بل كذلك الحدّ من تطلّعاتها إلى فرض شروط ومحدّدات، في الترتيب اللاحق، سياسيّاً وأمنيّاً.
وكيفما اتّفق، ومع جرعة تفاؤل نسبية، يبدو أن اتفاق الهدنة المؤقتة بات وراءنا، فيما المعركة دائرة في طبقة أخرى من طبقات الحرب التي باتت أكثر تشابكاً وتداخلاً ممّا كانت عليه، ليس بين حركة «حماس» وفصائل المقاومة من جهة والعدو الإسرائيلي من جهة أخرى، بل وأيضاً بين الحليفتَين، تل أبيب وواشنطن، وتحديداً على المرحلة المقبلة: الانكفاء إلى وقف إطلاق نار، والعمل على فرض ترتيب سياسي وأمني ضمن المستطاع مع الشركاء الإقليميين، وهو المطلب الأميركي وفقاً لتشخيص الولايات المتحدة لمصلحتها ومصلحة إسرائيل معها؛ أو استمرار الحرب لينسحب الغزو البرّي على مدينة رفح، ثم البحث في ترتيب اليوم الذي يلي، ما يضمن تأجيل الاستحقاقات الشخصية الخاصة طويلاً، وفقاً لما يطالب به نتنياهو وائتلافه، في ظلّ وجود تأييد عارم لدى الجمهور الإسرائيلي لهذا المطلب.
تريد واشنطن الانكفاء إلى وقف إطلاق نار، والعمل على فرض ترتيب سياسي وأمني ضمن المستطاع مع الشركاء الإقليميين


إلّا أن ما كان في الأمس تقديراً مرجّحاً، أي بدء عملية برّية في رفح، بات حالياً موضع شكّ معتدّ به، وذلك بعدما عزّز الجانب الأميركي من ضغوطه لإنهاء الحرب، ليس عبر هدنة مؤقتة فقط، بل عبر وقف ممتد لإطلاق النار. والواقع أنه يمكن للإدارة أن تتوسّع تدريجيّاً في ضغوطها العملانية، ما لم تستجب تل أبيب للمطالب الأميركية، سواء عسكريّاً عبر «تقطير» الذخائر والحدّ من القدرة العسكرية الإسرائيلية على مواصلة الحرب، أو سياسيّاً عبر «فتح صنبور» الضغوط الدولية بلا فرامل أميركية، في موازاة الضغط من الداخل الإسرائيلي نفسه، عبر المؤسستَين السياسية والأمنية.
ومن المرجّح أن تكون الزيارة الإقليمية لوزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، والمتزامنة مع زيارة وزير الأمن الإسرائيلي، يوآف غالانت، إلى «البنتاغون» - والتي تُعدّ عمليّاً استدعاءً -، هي الجزء المعلن من الضغوط، رغم أنها تأخذ، لتخفيف الوطأة على الشريك الإسرائيلي، عناوين مخفّفة تتمحور حول التنسيق والشراكة.
وعليه، فإن السباق القائم، يحمل في طيّاته إمكانات وقف القتال، بخاصة أن الجانب الأميركي معنيّ بإنهائها، بما يراه مصلحة أميركية أولاً، مصحوبة ثانياً بمصلحة شخصية لرأس الهرم في واشنطن، جو بايدن، مع اقتراب الانتخابات الرئاسية، وتعثّره ضمن قاعدته الديموقراطية. وهذا تقدير يجد ما يبرّره ويدفع إليه من أقوال وأفعال أميركية بدأت تضغط أكثر على صانع القرار في تل أبيب، الذي لن يجد هامش مناورة كبيراً للتملّص من الضغوط. أمّا الحديث عن قرب نهاية الحرب، فلم يَعُد تقديراً بالتمنّي، بل هو مبني على مقدّمات، ومنها ما بات ملموساً، وإنْ كان ذلك لا يعني، بالمطلق، أن نتنياهو وشركاءه لن يحاولوا تأخير الاستحقاقات، التي يبدو في المقابل أن واشنطن، هذه المرّة، مضطرة إلى أن تكون جدّية إزاءها.