لا يمكن اختصار نقاش المستقبل في إسرائيل من خلال قراءة الآراء السياسية لمجموعة من السياسيين، أو ما تشير إليه استطلاعات الرأي. ذلك أن حظوظ عضو مجلس الحرب، بيني غانتس، في الانقلاب على بنيامين نتنياهو تبدو غير مضمونة، حتى لو أشارت الاستطلاعات إلى حصول الأول الذي يرأس حزب «أزرق أبيض»، على 34 مقعداً - مع انسحاب جدعون ساعر من «الائتلاف الوطني» برئاسة غانتس، وإبدائه رغبته في دخول «كابينت الحرب» -، مقابل حصول حزب «الليكود» على 17 مقعداً فقط في حال إجراء انتخابات مبكرة لـ«الكنيست». قد يكون ذلك أشعر غانتس بالنشوة، لكن هامش المناورة لديه من أجل الفوز بتلك المقاعد يبدو مقلّصاً جداً، ولاسيما أنه يتحتّم عليه الذهاب أولاً إلى الانتخابات. في الواقع، ومع عدم توجه نتنياهو إلى الاستقالة ورفضه إجراء انتخابات مبكرة، وعدم وجود ضغط شعبي قادر على إطاحته، من جهة، وعدم قدرة غانتس على فرط الحكومة وضمّه لكل من هو مستعد لخوض المواجهة مع نتنياهو، من جهة أخرى، ستبقى خطوات غانتس في موقع مراوحة دون نتيجة، لا يبدو سهلاً معها التخلص من نتنياهو سياسياً. يضاف إلى ذلك، أن إمكانية إسقاط غانتس لنتنياهو لا تعني حكماً أن رؤية الأول متوافقة مع الرؤية الأميركية لـ«اليوم التالي» في قطاع غزة وفلسطين عموماً، فالرجل لا يتبنّى مسار «حل الدولتين» ولم يعطِ أي إشارات إيجابية حول مسار «السلام العربي - الإسرائيلي». ولذا، يمكن تصنيفه بالنسبة إلى واشنطن كورقة ضغط أميركية غير مضمونة النتائج في مواجهة نتنياهو.
وعلى أي حال، فإن تشكيل الحكومة قد يكون أسهل ما في مَهمّة غانتس، قياساً إلى ما سيعقب نجاحه في التأليف، إذ يمكن التأكيد أن غانتس سيرث عن سلفه بيئة مشبعة بالتهديدات والتحديات المرتبطة بـ«الأمن القومي» الإسرائيلي الذي بات أكثر تصدّعاً بعد عملية «طوفان الأقصى»، علماً أن النقاش الجاري اليوم يتمحور أيضاً حول الخطوات التي سيقوم بها أيّ طرف حاكم في إسرائيل، وكيفية تعامله مع عدّة ملفات، أبرزها: الاستيطان في الضفة الغربية، والبرنامج النووي الإيراني، والتنامي السريع لقدرات كل من «حزب الله» وحركة «أنصار الله» العسكرية، وتهديدهما الأمني للكيان، فضلاً عن طرح الجدوى والكلفة المترتبة على العلاقة المزمع إنشاؤها مع دول الخليج.
سيرث غانتس، في حال تشكيله الحكومة، بيئة مشبعة بالتهديدات والتحديات المرتبطة بـ«الأمن القومي» الإسرائيلي


ولا تبدو مهمة غانتس سهلة مع تصاعد النبرة اليمينية الإسرائيلية؛ فحتى لو أراد تبني الرؤية التي تبديها واشنطن للقضية الفلسطينية، سيصطدم مع غالبية الشارع الإسرائيلي، الذي لا تزال نبرته عالية تجاه الحرب في غزة، رغم معارضته الشرسة لنتنياهو. وفي هذا الإطار، لا يمكن فصل الزيارة التي أجراها غانتس إلى واشنطن عن الفشل الإسرائيلي في تحقيق أي إنجاز ميداني، واستمرار تعثر الاتفاق على هدنة أو وقف إطلاق نار مع الجانب الفلسطيني. كما لا يمكن عزلها عما يقوم به نتنياهو من عرقلة لمساعي واشنطن في هذا الخصوص. يأتي ذلك مترافقاً مع تراجع تأييد الإدارة الأميركية للحرب يوماً بعد آخر، إذ أشار استطلاع لشبكة «فوكس نيوز»، إلى أن 65% من الناخبين الأميركيين غير راضين عن أداء الرئيس الأميركي، جو بايدن، تجاه الحرب. لذا، يتخوف بايدن من فقدان دعم الناخبين المسلمين في الولايات الرئيسية التي تحسم المواجهة مع منافسه دونالد ترامب، فيما تراهن واشنطن اليوم على «الصوت العقلاني» لغانتس في الحكومة الإسرائيلية، وإمكانية حشد تأييد الكثير من دول العالم حوله.

لقاءات غانتس في البيت الأبيض
تريد إدارة بايدن مواصلة دعم إسرائيل في حربها على قطاع غزة، لكنها ترغب في أن تسمح إسرائيل بإدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع، وهذا ما استخلصه غانتس من زيارته لواشنطن. ليس ذلك فحسب، بل هو استنتج أنّ زيارته لواشنطن جاءت متأخرة، وتبيّن له أيضاً أنّ كبار المسؤولين في إدارة بايدن لا يصدقون ما سمعوه من نتنياهو ومستشاريه بشأن كل ما يرتبط بخطة إجلاء المدنيين في العملية العسكرية المحتملة في رفح. وبحسب موقع «واللا»، أعرب المسؤولون في «البيت الأبيض»، عن تشاؤمهم حيال احتمال التوصل إلى اتفاق تطبيع علاقات بين إسرائيل والسعودية طالما استمرّت الحرب على غزة.
على أن اللافت في زيارة غانتس، لقاؤه بـ«الآيباك»، والذي شكّل علامة فارقة؛ كونها منظمة أميركية يهودية، تعمل بمثابة «لوبي» يسعى إلى ضمان دعم أميركي مطلق لإسرائيل. والجدير ذكره، هنا، أن اللقاء بين الطرفين لم يكن الأول من نوعه منذ بداية الحرب. ففي تشرين الثاني 2023، التقى وفد من «الآيباك»، غانتس، في القدس المحتلة. وللمراقب أن يضع علاقتهما تحت المجهر: «الآيباك» بوابة إسرائيل إلى أروقة الإدارة الأميركية، وبوابة واشنطن لإدارة الحكومة في تل أبيب. وفيما كان قد حظي غانتس نفسه بإلقاء خطاب أمام الجمعية العامة للمنظمة في وقت سابق من عام 2019، فهو «نجح في أن يقدّم نفسه، كبديل من نتنياهو آنذاك ولم يبق له غير إقناع الإسرائيليين»، وفقاً لصحيفة «هآرتس».
والجدير ذكره، هنا، أن العلاقة السيئة بين غانتس ونتنياهو تعود إلى إعلان الأول نيته الترشح في وجه الثاني عام 2019، فضلاً عن قيادته للتظاهرات الرافضة للإصلاحات الدستورية عامَي 2022 و2023، ما أسفر عن وصول العلاقة بين الرجلين إلى أسوأ مراحلها. ومع ذلك، قبِل غانتس دخول الحكومة التي تم تشكيلها إبان هجوم 7 أكتوبر من العام الماضي، في الوقت الذي كان فيه شعار «لا صوت يعلو فوق صوت الحرب» قد سيطر على المشهد الإسرائيلي. ومنذ اللحظة الأولى لدخول غانتس الحكومة، بدأت الخلافات بينه وبين نتنياهو تطفو إلى السطح بعد رفضه ووزير الحرب، يوآف غالانت، الحضور إلى جانب نتنياهو في أحد المؤتمرات الصحافية. ثم كان أن تفاقمت الأزمة أخيراً مع رفض نتنياهو إطلاع شركائه في الائتلاف الحكومي على تفاصيل المفاوضات مع «حماس»، وأيضاً طلبه معلومات عن الأسرى الأحياء لدى المقاومة من دون إعلام الحكومة التي لم تضع هذا الشرط من الأساس.