مع بداية شهر رمضان، وما يرافقه من ضخ إعلاني عبر القنوات الفضائية على مدار اليوم، يعود الحديث العربي عن حملات مقاطعة منتجات الشركات الإسرائيلية وتلك الداعمة لها، وسط انتقادات طاولت إعلانات منتجات مدرجة على لائحة المقاطعة. وفيما بقيت سوريا خارج تلك الحوارات، بدا واضحاً أنّ تفاعل السوريين مع العدوان الوحشي على قطاع غزّة لم ينسحب على المجال الاقتصادي: فلا حملات سورية شعبية على وسائل التواصل الاجتماعي تدعو إلى المقاطعة، ولا إعلام خاص أو حكومي أضاء على حيثيات الموضوع، وإنما اقتصر الأمر على حالات فردية بادرت إلى المقاطعة و/ أو دُعيت إليها، بينما لم تلقَ الدعوات آذاناً صاغيةً بما يكفي. ولعلّ مردّ ذلك إلى العبارة التي تداولها كثيرون في تعليقاتهم: لا يوجد في سوريا ما نقاطعه.من حيث المبدأ، يتفق السوريون على أهمية مقاطعة بضائع الشركات الإسرائيلية والشركات الداعمة للكيان، لما للسلاح الاقتصادي من وزنٍ في المعركة، علماً أن الخسارة الإسرائيلية المترتبة على المقاطعة تأتي في المرتبة الثالثة من حيث مجمل خسارة دولة الاحتلال المالية، بعد خسارة قيمة العملة وتراجع الأسهم، وفقاً لتقارير إسرائيلية. وفي السياق، يرى الدكتور وائل الهرش أنه «يجب إدراك حقيقة أنّ الكيان بالنسبة إلى الرأسمالية العالمية هو مشروع اقتصادي يجب أن يتم إنجاحه واستخدامه في خدمة الأهداف الاستراتيجية للرأسمالية العالمية في المنطقة العربية، وبالتالي فإن مقاطعة بضائع أميركية على سبيل المثال يؤثر بشكل أو بآخر في الاحتلال الصهيوني». ويضيف الهرش، الحائز على دكتوراه في الاقتصاد، في حديثه إلى «الأخبار»، أن «الشركات الصهيونية تلعب أدواراً متداخلة ومتشابكة تتعلق بطبيعة العلاقة الوظيفية مع الكيان، حيث تقدم نفسها على أنّها فعاليات اقتصادية فيما الواقع أنها فعاليات احتلالية، من مثل الشركات التي تُعنى بتصدير المنتجات الزراعية، والتي تقوم بدور بارز في الاستيلاء على الأراضي والموارد الفلسطينية».
من ناحية أخرى، فإن تأييد فكرة المقاطعة نابعٌ من شعور داخلي شعبي بضرورة معاقبة الكيان المحتل بغض النظر عن النتائج الفعلية، وهو ما يؤكده الباحث الاقتصادي، الدكتور محمد كوسا، في حديثه إلى «الأخبار»، بقوله إن «المقاطعة أداةٌ فاعلة من حيث إنّها تعبر عن رأي عام لدى المستهلكين، وتشكّلُ عاملَ ضغطٍ على الحكومات لقطع العلاقات الاقتصادية مع المعتدي، وهذا يسبب على الأقل ضغوطاً اقتصادية عليه تُصرف لاحقاً بالسياسة لإخضاعه والحدّ من عدوانه». على أن ما يختلف عليه السوريون هو فعالية مشاركة بلادهم في هذه المقاطعة، وقدرتها على تحقيق دورٍ مهم في ذلك إلى جانب الدول الأخرى، وخاصةً في ظل العقوبات الاقتصادية الأحادية الجانب المفروضة عليها منذ سنوات من جهة، وسياسة الدولة السورية التي انتهجت مقاطعة الاحتلال منذ عقود من جهة أخرى، إذ يعتقد البعض أنه لا توجد بضائع أجنبية من الأساس في الأسواق السورية لمقاطعتها، وما هو موجود «مهرّب» ومرتفع الثمن أو غير أصلي، بينما يرى آخرون أن «المقاطعة تضرّ بالشركات السورية التي تبيع المنتجات العالمية، ولن يصل الضرر إلى الشركة الأم التي تجب مقاطعتها فعلاً».

تجاوزات
صحيح أنه تمّ إغلاق فرع «ماكدونالدز» في سوريا منذ سنوات، وأن البضائع التابعة لشركات إسرائيلية وأميركية لا تجد طريقاً إلى الوصول بقرارات حكومية اقتصادية نواتها «مكتب مقاطعة إسرائيل» التابع لوزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية، لكن، على سبيل المثال، تتابع الشركة المحلية التي تنتج المياة الغازية لمنتج «بيبسي»، الترويج لمنتجاتها، كما تصل مستحضرات التجميل من «لاروش» و«جونسون» تهريباً إلى البلاد، وتنتشر المنتجات الحاصلة على امتياز تجاري من «بريل» وغيرها في الأسواق، من دون ممانعة تُذكر. وهنا، يشير الهرش إلى أن «المواطن السوري في قلب المعركة مع الاحتلال الصهيوني، بالتالي فإن الأسلوب الكفاحي للسوريين يكون متقدّماً أكثر عن شعوب أخرى، متجاوزاً بذلك ممارسات مقاطعة المنتجات رغم أهميتها، وخاصة مع ظروف العقوبات والحصار الاقتصادي المفروض على سوريا، والتي جاءت نتيجة عدة أسباب من بينها مواقف سوريا الرافضة للكيان الصهيوني». ويضيف: «لا تنتشر في الأسواق السورية المنتجات الغربية التي يجب مقاطعتها إلا فيما ندر، ولكن لا يخلو أي عمل منظّم ومدروس من بعض الشوائب التي لا يمكن ضبطها، خصوصاً عند الحديث عن استراتيجية دولة بأكملها تضم ملايين من المواطنين»، مستدركاً بأنه «توجد في كل مجتمع، بطبيعة الحال، طبقات لها طابع استهلاكي يطفو على شكل برجوازي محلي». ومع ذلك، يبقى أثر تلك المنتجات، بحسب الهرش، «محدوداً سواء عبر انتشارها في الجغرافيا السورية، أو عبر وصولها إلى المستهلك السوري، فغالباً ما يرشح منها يكون مهرباً». ويشير إلى أن التهريب «سلوك مكافحٌ من قبل الدولة، وهو أساساً يزيد من ثمن المنتجات المرتفع بالأساس، والذي لا يتناسب مع طبيعة القوة الشرائية للمواطن السوري وترتيب أولوياته».
لا يمكن إغفال أن المقاطعة هي ثقافة متأصّلة في السوريين منذ عقود


ثقافة متوارثة
لا يمكن إغفال أن المقاطعة هي ثقافة متأصّلة في السوريين منذ عقود، لم تتشكل من دور الحكومة السورية في إصدار العديد من القرارات والتعاميم فقط، وإنما هي شعور جمعي تكوّن لدى المجتمع السوري كردِّ فعلٍ على العدوان. وإذ تجلى ذلك بشكل عفوي في رفض أي تعامل مع إسرائيل، ومنه التعامل التجاري، يؤكد كوسا أن «الشركات السورية الحاصلة على حق الامتياز التجاري من شركات عالمية هي قليلة العدد، وفي حال كانت الشركات على لوائح المقاطعة، فهذا لا يعني أن الشركة المحلية تمثل الشركة الأم». ومع ذلك، يمكن للجهات المختصة، بحسب كوسا، «ضبط قائمة الشركات العالمية التي يجب مقاطعتها والتدقيق مع الشركات السورية الحاصلة منها على وكالة أو امتياز تجاري لمنع أو قبول هذا التعامل التجاري». ويضيف: «لا أعتقد أنّ الدولةَ السوريةَ غافلةٌ عن ذلك لإيقاف أي فائدة تعود على الشركات الإسرائيلية أو الشركات الداعمة لها»، مشيراً إلى أن «دور الإعلام يساعد في الإضاءة بشكل مستمر على قائمة الشركات العالمية التي يجب مقاطعتها، وتعميمها بشكلٍ دوريّ من قبل الحكومة على الجهات العامة والخاصة».

أمنيات
«يمكن القول إن سوريا سباقةٌ في مقاطعة الكيان الصهيوني ككل، ليس فقط كحالة اقتصادية، فالمواقف السورية والدعوات الرسمية إلى إصدار قرارات تدين الكيان الصهيوني، فضلاً عن دعم حركات المقاومة الفلسطينية، كلها أمور تساعد بالضرورة في بناء حصنٍ في وجه تلك المنتجات»، هذا ما يؤكده الهرش، مشيراً إلى أن «سوريا عملت على مدى عقود بسياسة اقتصادية مفادها دعم المنتج الوطني، ترافقت مع حملات توعوية في مختلف قطاعات المجتمع، تنبّه إلى خطورة المنتجات الأجنبية تكاملاً مع التربية القومية والوطنية التي تزرعها في المجتمع»، ومستدركاً بأن «دورها الحالي هو حثُّ الصناعيين ودعمهم للاهتمام بجودة منتجاتهم، ما يؤدي إلى خلق بديل فعالٍ وكفاءة مساوية للبضائع المستوردة، وهذا يسهّل من عمليات المقاطعة في الدول الأخرى».
أما الدور الأكثر فعالية من المقاطعة، وفقاً لرأي كوسا، فهو الحصول على فرص اقتصادية وتعاملات تجارية خارجية تحدُّ من تعامل العدو مع الكثير من بلدان العالم، وأن يكون المنتج السوري والموقع التجاري لسوريا شريكاً مهماً لتلك الدول، يغنيها عن التعامل مع الكيان الإسرائيلي وداعميه.