في الثاني من آذار (مارس)، نشرت اليونيسف فيديو للممثّل الإيرلندي ليام نيسون (71 عاماً)، يعدّد فيه ما يحتاجه أطفال غزة اليوم. طالب سفير المنظّمة التابعة للأمم المتحدة للنيّات الحسنة، بخمسة احتياجات أساسية لصغار القطاع: أوّلاً، الحماية حيث لا مكان آمناً لهم. وثانياً، لوازم إنقاذ الحياة حيث إيصال المساعدات يعدّ قضية حياة وموت، إضافة إلى مياه نظيفة وطعام ومأوى ومعدّات طبية في ظلّ معاناتهم من سوء التغذية وخطر الموت والجفاف، فضلاً عن ممرّ آمن للمساعدات وللعاملين في مجال المساعدة في سبيل الوصول إليهم. ثالثاً، القدرة على الوصول إلى الخدمات، إذ لا يتلقى الأطفال الجرحى والحالات الحرجة العلاج اللازم، فيما يجب السماح بدخول المساعدات لإصلاح البنى التحتية المتضررة. رابعاً، التمويل، إذ تحول كل الصعوبات دون إيصال المساعدات التي تتزايد الحاجة إليها مع استمرار الحرب. خامساً، وقف إنساني وفوريّ لإطلاق النار.
استغلّ ناشط إسرائيلي فيلم Taken لتبرير العدوان على القطاع

ومع الإفراج عن المقطع المصوّر الذي لا تتعدّى مدّته الدقيقة ونصف الدقيقة، انهالت الردود الإسرائيلية التي تمحورت حول الرهائن لدى حماس في غزة. فقد علّق أحدهم بالسؤال: «لماذا لا تستسلم حماس وتحرر الرهائن؟ وينتهي هذا كله». وكتب آخر: «كنت أودّ أن أقول إنّ لائحتك تنقص الحرية من طغيان حماس»، فيما اختصر ثالث الاحتياجات الخمسة بـ «إطلاق سراح جميع الرهائن، واستسلام حماس فوراً من دون أي شرط، وحلّ منظمة اليونيسف، ونزع السلاح من غزة، واجتثاث التطرّف».
في فيديو نشره الناشط الإسرائيلي داني بولر في 19 تشرين الثاني (نوفمبر) 2023، عاد إلى فيلم Taken الذي لعب بطولته نيسون وتدور أحداثه حول عميل سابق في «وكالة الاستخبارات المركزية» (CIA) خطف إرهابيون ابنته أثناء رحلتها إلى باريس، ليعتمد الوالد على مهاراته القديمة لإنقاذها. وبعد محاولة الشرطة ردع الرجل على اعتبار أنّ ما يقوم به يسبب أضراراً جانبية، يردّ البطل الذي يجسّده ليام بأنّهم خطفوا ابنته. ارتكز بولر على الشريط ليطرح سؤالاً: «هل كان ليام نيسون الرجل السيّئ في الفيلم؟ طبعاً لا، بغض النظر عن الفوضى التي تسبّب فيها والقتلى من المدنيين»، عارضاً صورة طفلته البالغة 9 سنوات، مؤكداً أنّه في حال خطفها أحدهم فلن يفكر في الضرر الجماعي الذي سيسبّبه، حتى ولو أنّه يصنّف نفسه رجلاً خيّراً. استخدم الناشط الإسرائيلي طفلته، لتبرير قتل المدنيين في غزة، ولكنه نسي أنّه بناءً على هذه القاعدة تصبح نتائج «طوفان الأقصى» وكل عمليات المقاومة منذ عام 1948 مجرّد أضرار جانبية لحماية الأطفال من الاحتلال. وربّما سها عن أنّه مقابل الرهائن الإسرائيليين، هناك آلاف الأسرى الفلسطينيين.
تحاول السردية الإسرائيلية خلق ضحية جديدة علاوة على الإبادة في غزة. الضحية قي تعريف معجم «أوكسفورد» هو «شخص أصيب أو جُرح أو قُتل نتيجة لجريمة أو حادث أو حدث أو فعل آخر». منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، يتباكى الإسرائيليون على «مدنييهم» الذين خرج عدد منهم شاكراً سجّانيه، مقابل أسرى فلسطينيين خرجوا من المعتقل بتشوّهات وأمراض مستدامة.
يشكّل دور الضحية عنصراً أساسياً في أي صراع، سواء أكان التنافس بين الجنسين أم مهمة القضاء على الأنظمة الاستبدادية. بمجرّد نسب الضحية، يصبح إنقاذ الضحايا قضية نبيلة. ومن الأمور الحيوية لهذا المنطق رفض اعتبار أنّ الضحية قد تكون مشتركة في بعض الأحيان.
تضع إسرائيل نفسها في موقع الضحية، لأنّ حماس نفذت عملية ضدّها. ورغم خفة المقاربة، فهي عميقة ومتجذّرة في ذهنية الإسرائيليين. في مثل هذه الحالات، يوصي علماء النفس باستكشاف تلك المشاعر بدلاً من تجاهلها أو رفضها ببساطة. ووسيلة الاستكشاف تسمى التفاوض أو فن الديبلوماسية. وبالطبع، إنّ القوّة المهيمنة هي التي تحتفظ بحق تحديد المبادئ. ويصبح التفاوض ترفاً غير ضروري ويستغرق وقتاً طويلاً.
تجد الضحية مبرّرها ولو أتى على حساب أكثر من 30 ألف شهيد. هكذا، يصبح فيديو لممثل إيرلندي يطالب فيه بالحدّ الأدنى من المعايير الإنسانية في الحرب، بمنزلة هجوم على اليهود أجمعين، لتبرز إلى الواجهة مجدداً تهمة «معاداة السامية» الجاهزة لتصنيف أي شخص يتجرّأ على معارضة قرارات «الضحية» ــ المجرمة.
طغى النقاش حول «ثقافة الإلغاء» على الأوساط الثقافية في السنوات الأخيرة، ومنه يمكن استنباط تعاظم الهجوم على أي رأي رافض للمجزرة بحق الفلسطينيين في قطاع غزة. هي ثقافة تنتشر فيها عمليات الإلغاء غير المبررة للرأي الآخر الذي يعتبر «مسيئاً»، إلى درجة أنّ عدداً من الأشخاص يتجنبون التعبير حتى عن وجهات نظر الغالبية، ومناقشة موضوعات معينة، والاختلاط بأفراد معينين خوفاً من التعرّض للوصم أو النبذ أو فقدان الوظائف. في ثقافة الإلغاء، يخشى الناس الدفاع عن الأفراد الذين تم الافتراء عليهم. أما في العدوان الأخير على غزة، فذهب النقاش إلى أبعد من الحدود الإنسانية، في ظل انقسام بين معارض ومؤيد لعملية قتل جماعي.
بين لعب دور الضحية وثقافة الإلغاء، يغدو العدوّ كطفل مدلّل


إحدى ظواهر ثقافة الإلغاء تتجسد بالتهديد الحقيقي للحياة، ومنها تبرّر المجازر وقتل أي معارض، كأن يقبض على طالب في «جامعة كورنيل» ومحاكمته بسبب منشوراته المزعومة على الإنترنت التي تحتوي على خطابات «معادية للسامية» بشدة، وتهديدات موجهة إلى سكان كورنيل اليهود. تظهر الأمور وكأنّنا أمام مكارثية جديدة، وقمع ممنهج لحرية الرأي في عقر دار مروّجي الأفكار لورش عمل حول حرية الرأي والتعبير ومنظّميها.
بين لعب دور الضحية وثقافة الإلغاء، يغدو العدوّ الصهيوني كطفلٍ مدلّل لا يمكن رفض طلبه، ولو أدّت «مشاغباته» إلى إزهاق ما يزيد عن 30 ألف روح، وتشريد أكثر من مليون ونصف مليون آخرين. الهجوم على ليام نيسون ليس سوى إحدى الممارسات المستمرة لفرض الخطاب الصهيوني، حول أنّ المحتل لا يمكن معارضته لأنّ ولادته في النصف الآخر من الكرة الأرضية كرّست أحقيّته بوجوده وممارساته على محيط أجمع.



استياء في أروقة CNN
كشف تقرير نشره موقع «ذا إنترسبت» في الأوّل من شهر آذار (مارس) الحالي، تسريبات عن اجتماع داخلي حصل في مكتب «سي أن أن» في لندن في تاريخ 13 شباط (فبراير) الماضي، يتعلّق بتغطية الشبكة الأميركية للعدوان الإسرائيلي على غزة. وأعرب أعضاء الطاقم، بمن فيهم الصحافية المخضرمة كريستيان أمانبور، عن مخاوفهم بشأن التحيّز الإسرائيلي الملحوظ. وأعربت أمانبور عن تحفظاتها بشأن بروتوكولات إعداد التقارير في الشبكة خلال الاجتماع، ورأت أنّ هناك ازدواجية في المعايير في تغطية الصراع، مؤكدة أهمية الحياد والحاجة إلى ضمان تمثيل وجهات نظر منوّعة.
ظهر الاستياء بين موظفي CNN عندما استجوبوا المديرين التنفيذيين للشبكة حول التحيّز المحتمل في تغطية العدوان الإسرائيلي المستمر على غزة. وأثار الموظّفون مخاوف بشأن ما وصفوه بـ «البيئة المعادية» للصحافيين العرب داخل الشركة. وسلطوا الضوء على حالات إسكات الأصوات الفلسطينية والعربية مع تضخيم الأصوات الإسرائيلية، ما يشير إلى وجود تحيّز منهجي يجب معالجته. وقد سلّطت تصريحات أمانبور التي اشتهرت بسؤال «هل تدين حماس؟» بعد عملية «طوفان الأقصى»، الضوء على المخاوف الأوسع داخل مجتمع الصحافة بشأن تغطية الصراعات في الشرق الأوسط. وباعتبارها مراسلة تتمتع بخبرة واسعة في تغطية المنطقة، فإنّ لوجهة نظرها ثقل في هذه الصناعة. كما أنّها شدّدت على أهمية الصحافيين على الأرض ودعت المزيد من المراسلين إلى تقديم تقارير مباشرة من داخل غزة، حيث يمكن أن يكون الوصول إلى المعلومات صعباً. والجدير ذكره أيضاً، أن صحيفة «ذا غارديان» البريطانية كانت قد نشرت تحقيقاً في مطلع الشهر الماضي، تحدّث عن تحيّز «سي إن إن» في تغطيتها لحرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، وكشف عن سياسة تحريرية منهجية تعطي الأولوية لوجهات النظر الإسرائيلية مع فرض رقابة على وجهات النظر الفلسطينية، عبر إخضاع كل قصة تتعلّق بالحرب لموافقة مكتب القدس التابع للشبكة قبل نشرها. واللافت أنّ رئيس التحرير والمدير التنفيذي، مارك طومسون، عمل سابقاً في «بي بي سي»، وواجه في حينها اتهامات بالخضوع لضغوط الحكومة الإسرائيلية.