لم تعرف الجمهورية التركية، منذ إعلان قيامها عام 1923، رئيساً كرجب طيب إردوغان. أوجه الاختلاف بينه وبين أسلافه كثيرة، إلا أن الأهم منها هو تلك الميزة التي أتاحت له «تعديل» العلاقة التي تربط ما بين «المنهج - الأيديولوجيا» وبين «الخط السياسي». ومثل هذا كان يرد ذكره في الأدبيات الماركسية، عبر ما يسمى العلاقة القائمة بين «النظرية» و«الممارسة»، وأيهما يجب تقديمها على الأخرى، ثم ما هي الموجبات التي تستدعي القيام بفعل من ذلك النوع؟ وتلك كانت، عادةً، نقطة فاصلة في «تصنيف» الأنظمة. ومن المؤكد أن إردوغان كان قد نجح في اجتراح طبعات محدّثة من هذه الأدبيات التي لا ينتمي إلى قماشتها بالتأكيد، بوصفها «أفكاراً إلحادية».بعد قطيعة دامت أكثر من إحدى عشرة سنة، قام إردوغان بزيارة إلى القاهرة، الأربعاء الماضي، وفي جعبته العديد من الملفات الثنائية، كالملف الاقتصادي الذي يشمل التبادل التجاري بين البلدين، وكذا الملف الليبي، ومسألة التنقيب عن الغاز في شرق المتوسط، مع مرور لا بد منه على الملفين الأمني والعسكري. كما احتوت أيضاً العديد من الملفات الإقليمية ذات الطابع الجيوسياسي، وفي الأساس منها الحرب الدائرة في غزة والمآلات المحتملة لها. ومن المؤكد أن هناك افتراقاً كبيراً بين الطرفين حيال كل تلك الملفات، لاعتبارات عدة أبرزها حالة التضاد القائمة بين نظامين أحدهما يميل إلى تبني «الإسلام السياسي»، و الآخر يستمد مشروعيته بشكل أساسي من مفهوم يقوم على «محاربة» هذا الأخير. وتزيد من هذه الحالة، القطيعة التي سادت بين النظامين منذ أن قام الرئيس عبد الفتاح السيسي بالانقلاب على سلفه محمد مرسي في 3 تموز 2013، الأمر الذي مثّل تحولاً جيوسياسياً على امتداد المنطقة برمتها، وليس بالنسبة إلى المشروع «الأردوغاني» فقط.
لكن رغم كل التباينات التي تبدو واسعة، إلا أن التطوّرات الحاصلة تحتّم على الدول الإقليمية الكبرى، ومن بينها مصر و تركيا، طي العديد من الخلافات تمهيداً لإيجاد نقاط تلاقٍ من شأنها تجنيب الطرفين الكثير من التداعيات المحتملة لتلك التطورات. لا بل ربما تفرض هذه الأخيرة نوعاً من «التعاون القسري»، وخصوصاً بالنسبة إلى القاهرة التي تجد نفسها الآن أمام تحد خطير من الصعب التنبؤ بمآلاته، مع إعلان الجيش الإسرائيلي متابعة استعداداته لاقتحام مدينة رفح الحدودية، واحتشاد الجيش المصري لمنع تهجير الفلسطينيين في اتجاه سيناء. إذ يمثل ذلك، من وجهة نظر مصر، مسألة «أمن قومي» من الصعب على صانع القرار تجاهلها تحت أي ظرف، حتى ولو أدى الأمر إلى ملامسة «المحظورات»، وفقاً لما تورده مقالات منشورة في الصحف المصرية، وهي من دون شك تعبّر عن رأي القيادة المصرية التي تفضّل عدم تبنّي الآراء المشار إليها علناً، أقله حتى اللحظة.
زيارة إردوغان إلى مصر لم تكن مفاجئة، وإنما كانت لها سياقات تمهيدية. والإشارة الأولى كانت عبر مبادرته إلى مصافحة السيسي أثناء حضورهما افتتاح «مونديال قطر» في تشرين الثاني 2022، ثم تلتها محطّات عدة كان من الواضح أنها تهدف إلى جسّ نبض كل من الطرفين للآخر. وكان ذلك يجري بالتزامن مع قيام صانع القرار السياسي التركي بتقييم النتائج التي قادت إليها تجربة تسويق نظام حزب «العدالة و التنمية» لنفسه كنموذج «إسلامي معتدل» على مدى السنوات العشر السابقة، وهو الفعل الذي كان يتم بدعم أميركي أولاً، قبل أن يقع الافتراق على خلفية اغتيال السفير الأميركي في بنغازي في الذكرى الحادية عشرة لأحداث 11 أيلول 2001. آنذاك، كان الظن أن «النموذج التركي» قادر على طرق أبواب وازنة في المنطقة في ظل الفراغ «الأيديولوجي» الذي تعانيه، وخصوصاً بعد التمزّقات الكبرى في نسيجها، بفعل هبوب رياح «الربيع العربي» عليها وطول أمدها، والذي قرأته أنقرة على أنه شبيه بالمناخات التي سادت المنطقة العربية مطلع القرن السادس عشر، وقادت إلى ما قادت إليه من هيمنة تركية عليها أيام الحكم العثماني.
في ملمح آخر، يمكن النظر إلى زيارة إردوغان إلى مصر على أنها صندوق رسائل، موجّهة إلى مختلف دول الإقليم المتخاصِم معها منذ عام 2012، ومن بينها «المتصالحون» معه منذ عام 2020، والذين بقيت مصالحاتهم عند «منتصف الطريق». إذ إن حالة التصالح تلك تجيئ عادة بفعل الضرورات والمصالح، وتبقى عند درجة معينة بفعل «الحذر» الذي تستولده بواطن الأيديولوجيا، طالما لم يتم الإعلان رسمياً عن التخلي عن الأخيرة كذراع حامل للطموحات والتمدّد خارجياً. والراجح هنا أن الزيارة كانت تحمل رسالة تخلّ، وبشكل نهائي، عن دعم «الإخوان المسلمين» عموماً، وليس في مصر وحسب. إلا أن هذه الحالة ستكون بدرجات، بمعنى أنها قد تكون في ليبيا أخف، وفي سوريا بدرجة أقل، وفقاً لما تفرضه ضرورات الواقع المعقّد للوضع السياسي السوري، وهو ما سيدفع بإردوغان إلى إجراء مقايضة مع دمشق التي يمكن الجزم أن عينه كانت عليها وهو يطأ أرض مطار القاهرة.
ثمة أمر يجب التذكير به هنا، في سياق التحوّلات التي تشهدها السياسة التركية، مفاده أن القوى التي تصل إلى يقين بهزيمة مشروعها السائر في اتجاه ما، لا تستسلم، وإنما تحاول بطرق أخرى، تماماً مثلما سارت فرنسا نحو «الفرونكفونية»، وبريطانيا نحو «الأنكلوساكسونية»، بعد غروب شمسهما خريف عام 1956.