قبل أيام، نشرت «قناة 13» العبرية تقريراً مصوّراً يظهر وصول شاحنات محمّلة بالبضائع المتنوّعة من دولة الإمارات إلى كيان الاحتلال. تأتي حركة هذه الشاحنات الضخمة ضمن جسر برِّي يربط دولاً عربية بكيان الاحتلال. يُعدّ الجسر إمداداً حيوياً يجنّب العدو الصهيوني الوقوع في أزمة حقيقية، خصوصاً بعد بدء القوات البحرية اليمنية بالتعرّض لكل سفينة متوجّهة إلى موانئ الاحتلال عبر البحر الأحمر. هنا عودة إلى رواية «رجال في الشمس» (1963) للكاتب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني التي تتناول المصير الحتمي للفلسطيني الذي يبحث عن حلول فردية خارج قضية شعبه ووطنه. كما ترمز إلى خذلان السلطة الفلسطينية والدول العربية وعجزها عن وقف النكبة المستمرة بحق الفلسطينيين


«غابت علينا الشمس يا جْحِيشَتِي يللا، علينا نْعَجِّل شوي وتوكّلي عَ الله،
نغيّر التاريخ نوصِّل المريخ، ونطلِّع الشيطان ونشوفوا ليش زعلان منذ الأزل علينا،
علينا نعيد المجد غابر، علينا نغيِّر الشوادر، الشوادر والخيم، والعِيشِة مثل الغنم،
والزعيم اللي هرب، مش من تقاليد العرب، لا عند العرب عِيبْ وسرّها في الغيب،
علينا نعمل العجايب علينا نعرف السَّبايب، السبايب والعلل، والعشاير في الملل
في الذي منّا انتهب وفي التاريخ اللي انتكب، مش نكبة ونكبتين».
«أغنية وطنية» (ألبوم «موت النبي»- 1987) ـــ فرقة «صابرين»
في مطلع ستينيات القرن الماضي، قدِم الكاتب والمثقف المشتبك غسان كنفاني (1936-1972) من الكويت إلى لبنان وسكن في إحدى بنايات شارع الحمرا في بيروت. حينها لفترة قصيرة، كان يتحرّك بهدوء بعيداً عن أعين الشرطة وآذان المكتب الثاني بسبب عدم امتلاكه إقامةً رسميةً في البلد. خلال تلك الفترة، عمل على كتابة روايته الأولى «رجال في الشمس» التي أتمّها عام 1962 وصدرت بعدها بسنة واحدة في العاصمة الثقافية التي احتضنته لمدة اثني عشر عاماً. كان ابن مدينة عكا قد درس في يافا، ثم تنقّل إثرَ النكبة بين دمشق والكويت حيث عمل مدرّساً للرسم والرياضة ومحرّراً صحافياً. هناك في الكويت، أصبح كنفاني قارئاً نهِماً يطالع مئات الصفحات من الكتب بوتيرة يومية، ما أكسبه معرفةً واسعةً ومخزوناً ثقافياً، عرف لاحقاً كيف يوظّفه في كتاباته المتنوّعة بين مسرحيات وقصص قصيرة وروايات ودراسات تاريخية وقصص أطفال ومقالات سياسية. كان الصحافي الشاب صاحب القلم المخلص للقضية الفلسطينية قد لفت انتباه جورج حبش (1926-2008) مؤسّس «حركة القوميين العرب» في ذلك الحين، فضمّه إلى أسرة مجلة «الحرية» الناطقة باسم الحركة.
كتب كنفاني «رجال في الشمس» التي تُعد من أوائل الأعمال الأدبية عن الشتات والهجرة الفلسطينييْن، وهو يعمل محرّراً للقسم الثقافي في «الحرية» وكاتباً بأسماء مستعارة في صحف ومجلات أخرى. وصف المفكّر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد (1935-2003) هذه الرواية في مقالته البحثية عن الأعمال النثرية العربية بعد النكبة، بقوله: «من المؤكّد أنّها أجمل أعمال كنفاني وواحدة من أبرع الروايات القصيرة الحديثة وأبعدها أثراً». يشير سعيد بصورة غير مباشرة إلى طرح كنفاني لفكرة «النكبة المستمرة» في كتاباته (مع العلم أنّ كليهما لم يستخدما التعبير بشكلٍ مباشر) باعتبار أنّ النكبة فعلٌ مستمر وليس حدثاً جللاً واحداً حصل في عام 1948 وانتهى؛ فكل المصائب والأزمات المتلاحقة للشعب الفلسطيني ما كانت لتحدث لولا النكبة. الرواية الممتدّة على 110 صفحات تحوّلت إلى فيلم حمل عنوان «المخدوعون» (1972) من إخراج المصري توفيق صالح (1926-2013) وإنتاج «المؤسسة العامة للسينما» في دمشق. إنّها السنة ذاتها التي اغتيل فيها الكاتب والناطق باسم «الجبهة الشعبية» مع ابنة أخته لميس، وفقاً لـِ«قائمة غولدا». كان كنفاني من أبرز الشخصيات الفلسطينية ضمن لائحة الاغتيالات التي وضعتها رئيسة وزراء العدو الصهيوني غولدا مائير (1898- 1978) فور تنفيذ جهاز العمليات الخارجية في الجبهة لعملية مطار اللد (أيار/ مايو 1972، قبل أقل من شهرين من اغتياله)، ثم تنفيذ «منظمة أيلول الأسود» لعملية ميونخ (أيلول 1972). تتناول الرواية قصة ثلاثة فلسطينيين من (أجيال) فئات عمرية مختلفة يجمعهم القهر وضيق الحال في مخيمات اللجوء، بعد حوالي عقد كامل على النكبة. «أبو قيس» رجل طيب متعلّق بأرضه وبشجرات الزيتون التي فقدها إثرَ اجتياح قريته، وجد نفسه في فقر مدقع ويأسٍ من عدم قدرته على تلبية احتياجات زوجته وابنه. «أسعد» شاب مناضل مطارد من قبل السلطات بسبب نشاطه الثوري والسياسي، و«مروان» مراهق اضطر تحت وطأة تخاذل عائلي أن يتكبّد مسؤولية أمه وإخوته، فترك المدرسة وانشغل في إيجاد عملٍ يصرف عليهم.
حلم الثلاثة في الوصول إلى الخليج العربي النفطي، الكويت بالتحديد، حيث فرص العمل مصحوبة بأجور مرتفعة وحوافز مغرية. تبدأ الحبكة في تعرّف الثلاثة إلى «أبو الخيزران»، المهرّب الذي يتباهى بكونه أفضل سائق شاحنات ضخمة. كان «أبو الخيزران» قد خسر رجولته بعد إصابته في إحدى المعارك، ويعمل لدى ثري كويتي يُدعى «الحاج رضا»، على شاحنة بخزان ضخم لنقل المياه العذبة عبر الحدود بين العراق والكويت. بعد الاتفاق على المبلغ الذي طلبه المهرّب، يشرح لهم كيف سيقوم بتهريبهم عبر الحدود داخل خزان الماء الفارغ في قيظ النهار، ما سينجّيهم من نقاط التفتيش. كان الاتفاق على سبع دقائق داخل الخزان الملتهب من حرّ الصحراء، قبل نقطة التفتيش وحتى عبورها. وهكذا حصل عند العبور الأول، مع معاناة الثلاثة من الحرارة المرتفعة التي كادت أن تشوي أجسادهم وتخنقهم داخل الخزان. أما عند نقطة العبور الثاني، فقد تلهّى «أبو الخيزران» مع الموظفين، فنسيهم وقتاً فاق الدقائق التي تستحملها أنفاسهم، وحين عاد إليهم، لم يفتح الخزان لحظتها بالقفل الذي كان قد أحكم إغلاقه، بل انتظر حتى ابتعد أكثر عن نقطة التفتيش ونزل يفتح فوهة الخزان ليخرجهم، فوجدهم قد فارقوا الحياة. يحزن «أبو الخيزران» عليهم وهو ينهب الأموال من جيوبهم ثم يرمي بجثثهم عند حاوية النفايات وسط الصحراء. في النهاية، يختم كنفاني الرواية بمشهد «أبو الخيزران» وهو يلقي باللوم على الجثث طارحاً السؤال: «لماذا لم تدقّوا جدران الخزان؟».
كما في معظم كتابته، كان كنفاني في «رجال في الشمس» مباشراً غير مطيلٍ لأي حكاية أكثر من اللازم. لا حشو يحكى عنه ولا إضافات يمكن الاستغناء عنها لدى نصوص غسان الذي كان يعاني من مرض السكري، كأنّه كان يدرك أنّ حياته ستكون قصيرة جداً، لا تتجاوز السادسة والثلاثين. كان يؤمن بأنّ الكتابة فعل مقاوم، وأنّ عليه أن يكتب هنا وهناك، ويكتب بأسماء مستعارة مثل «فارس فارس» وغيره، حتى ينشر القضية الفلسطينية وأدب المقاومة الخاص بها. في هذه الرواية، كان صاحب «أم سعد» (1969) يمزج بين الواقعية المباشرة والرمزية في ما يتعلّق بشخوصه الأربعة، فمنهم من لا يدري كيف مرّت عشر سنوات على طرده من أرضه وهو لا يفعل شيئاً، كأنّه أفاق فجأة على لجوئه وقلة حيلته، ومنهم من بقي يتنقّل من مكان إلى آخر وعانى من خيانة الأصدقاء له، ففقد ثقته بمن حوله، بينما كان على الجيل الجديد أن يحمل على كتفيه مسؤولية تقصير من سبقوه. أما «أبو الخيزران المخصيّ»، فأراد كنفاني أن يرمز من خلاله إلى القيادة الضعيفة التي فقدت رجولتها يوم لم تستطع حماية أرضها من الاحتلال الصهيوني. هذه القيادة، وفقاً لدراسة تحليليّة، قامت بها الكاتبة الراحلة رضوى عاشور (1946-2014)، يُقصد بها القيادتَان الفلسطينية والعربية معاً، فقد كانتا ضحية في أحد الأيام. لكنّ بحسب الرواية، فإنّ الفشل وفقدان الدور الفعلي دفعا بها لأن تصبح جشعة وهشّة قابلة للتلاعب بها بسهولة، فانحرفت عن مهامها الأساسية وضلّت الهدف.
أحلامهم الفردية في تحسين أوضاعهم ومحاولة تأمين مستقبلهم، هي ما جمع الشخصيات الرئيسية في الرواية. ثلاثتهم -باختلاف قصصهم وظروف حياتهم- رأوا في الهجرة والابتعاد عن الوطن طوق النجاة لما بقي من أنفسهم. لكنّ كنفاني شاء أن يرفض هذا الواقع ويرينا حقيقته البشعة، فليس هناك في البعد عن الأرض والنضال في سبيلها إلّا المذلّة والضياع والموت. قصة «رجال في الشمس» حقيقية، أي أنّها حصلت بالفعل وسمع بها غسان حين كان يعمل في الكويت. لكنّ الروايات المتناقَلة تختلف على الخاتمة: هل مات الشبان داخل الخزان في الواقع؟ أم أنّ الكاتب وجد في رسم نهايتهم التراجيدية عبرةً للفلسطيني الذي ينسلخ عن قضيته ومصيره الجمعي؟
كان للدول العربية دور كبير في استمرار نكبة الفلسطينيين. يمكننا القول إنّ هنالك أكثر من دالٍّ على ذلك في الرواية القصيرة. النقطة التي ربما أغفلتها دراسات نقدية عديدة هي أنّ «أبو الخيزران» كان في الجيش البريطاني، وقد يكون كنفاني في ذكره لماضي هذه الشخصية التي قاتلت مع الفدائيين لكنها فشلت وخسرت المعركة والأرض وأصيبت إصابة عضوية في رجولتها، يشير عبرها إلى تلاعب الاستعمار البريطاني بالقيادات العربية منذ إيهام الشريف حسين بدولة عربية مستقلة وفق مراسلات الحسين-مكماهون، ثم إصدار وعد بلفور من دون أن يكون للحسين علم به. هناك أيضاً ما كان مشتركاً بين التحليلات المختلفة للرواية، هو أنّ حرس الحدود عند نقاط التفتيش يرمزون إلى الدور العربي في ترك الفلسطينيين يموتون تحت الشمس الحارقة. في الرواية، يُظهر كنفاني كيف تلهّى الموظفون الثلاثة عند الحدود مع «أبو الخيزران»، في قصة خيالية عن علاقته الغرامية بالراقصة «كوكب»، فطفِقَ يخصِف على نفسه من القصة المختلقة حتى يداري بها مصيبته. وفي مونولوغ شخصية «أبو الخيزران» في الفصل السادس من الرواية، غاص كنفاني في معاناة الشخصية «ثم ماذا نفعتك الوطنية؟ لقد صرفتَ حياتك مغامراً، وها أنتَ ذا أعجز من أن تنام إلى جانب امرأة! وما الذي أفدته؟ ليكسّر الفخار بعضه. أنا لست أريد الآن إلا مزيداً من النقود... مزيداً من النقود».
في العودة إلى الإبادة الممنهجة التي يرتكبها العدو الصهيوني في قطاع غزة، انتشرت قبل أيام قليلة أخبار وفيديوات عبر منصّات التواصل الاجتماعي تظهر مسار خط بريّ عربي يمتد من الإمارات إلى الكيان الصهيوني، لمساندة الاحتلال في محنته. جاء الجسر «العربي-الإسرائيلي» استجابة لحاجة الاحتلال إلى إيجاد خط تجاري بديل عن الشحن البحري، الذي تسيطر عليه القوات المسلّحة اليمنية في البحر الأحمر. كشف التقرير التلفزيوني الذي بثّته «قناة 13» العبرية وتناقلته منصّات إعلامية عربية وأجنبية، أنّ السفن التجارية القادمة إلى «إسرائيل» ستتوجّه إلى الخليج وتفرغ شحنتها في دبي، ومن هناك تُنقل البضائع عبر شاحنات النقل البري في مسارٍ يمرّ بالسعودية ثم الأردن، وصولاً إلى المعبر الحدودي بين الأردن وكيان الاحتلال. يُظهر التقرير طوابير طويلة من الشاحنات عند المعبر، ويعلّق بإيجابية مدير إحدى الشركات التجارية الإسرائيلية، موضحاً أنّ الأزمة الحالية فتحت المجال أمام طريق تجاري سريع بين الشرق والغرب، وفرص أخرى تشير إلى رؤيةٍ لشرق أوسط جديد. هذا الدعم الضخم والسريع لإنقاذ الاحتلال الإسرائيلي من أزمة اقتصادية حادّة تسبّب بها الكيان لنفسه إثرَ عدوانه الكثيف على غزة، جاء في الوقت الذي كان فيه الفلسطينيون يناشدون الدول والقيادات العربية لوقف المذبحة. بكل ما أوتوا من نفسٍ، وجّه مئات آلاف الغزّيين العرب صرخاتٍ ممزوجة بالدم، إلى حكومات الدول العربية لتوقف آلة الحرب الإسرائيلية التي قتلت عشرات الآلاف من الأطفال والخُدّج العرب، وارتكبت ما يقرب من ثلاثة آلاف مجزرة مستهدفة مستشفيات القطاع ومدارس إيواء النازحين المدنيين العرب.
يُحشر مليونان وثلاثمئة ألف فلسطيني في خزانٍ مساحته 365 كيلومتراً مربعاً فقط، مقفل بإحكامٍ من جميع الجهات (الإسرائيلية والعربية). تمطره السماء بوابل من القذائف الصاروخية والمدفعية والأسلحة الحارقة المحرّمة دولياً، حتى وصل عددها إلى مئة ألف وفاقت في حجمها ودمارها قنبلتَي هيروشيما وناغازاكي النوويّتين. ولكن هل بإمكان أحد أن يلوم الفلسطينيين اليوم ويتّهمهم بأنّهم لم يطرقوا جدران الخزان كما ادّعى «أبو الخيزران»؟ ولماذا أصلاً أقفل «أبو الخيزران» فوهة الخزان فوق رؤوسهم وهم في وسط الصحراء اللاهبة؟ لماذا لم يترك القفل مفتوحاً حتى يلتقطوا أنفاسهم قبل الاختناق؟ بين أن يلتقطهم حرس الحدود العرب أو الموت في نار الخزان، لماذا اختار لهم هذا المصير؟ هل فعلاً هم لم يحاولوا الطرق على الجدران قبل أن يموتوا؟ يبدو اليوم أنّ رجال كنفاني قد دقّوا جدران الخزان آلاف المرات، بالكلمة والموقف والسلاح، لكنّ المشكلة منذ الحكاية الأولى، منذ النكبة الأولى: هل هناك من يريد أن يسمع؟