قبل أيام قليلة، عرضَت منصّة البث التدفقي Hulu التابعة لمجموعة «ديزني» العالمية إعلان بروباغندا تضليلياً تبلغ مدته ثلاثين ثانية (الأخبار 31/1/2024)، يحمل الرسالة التالية: «هكذا كانت لتكون غزة من دون «حماس»». الإعلان المصنوع بواسطة الذكاء الاصطناعي وباللغة الإنكليزية، ينقسم إلى جزأين: الجزء الأول يبدأ بدعوةٍ إلى زيارة مدينة غزة الجميلة: Come Visit beautiful Gaza بما يذكّر بالحملة الترويجية Visit Palestine الشهيرة التي أقامها الصهاينة في ثلاثينيات القرن الماضي، لتشجيع يهود أوروبا للهجرة إلى فلسطين، وكانت من تصميم الصهيوني فرانز كراوس (1905-1993). يعرض هذا الجزء صوراً ملوّنة ومولّدة بالكامل عبر الكومبيوتر، لا تمت للواقع بصلة، ويمكن وصفها بالـ«سيمولاكرا» بحسب تعريف الفيلسوف الفرنسي جان بودريار، أي إنّ هذه الصورة هي نسخة فقدت صلتها بالواقع ولا تحمل أي ارتباط بأي مدلول أصلي. الصور الأولى تبدو كأنّها من الجنة: شاطئ ساحر وأشجار نخيل وأطفال فرحون وأناس كثر ربما في مهرجان على الشاطئ، وفنادق خمس نجوم وطعامٌ كثير، وحفلات ليلية، وطقوس دينية وسعادة وهناء. أما الجزء الثاني، فيبدأ عند تبدّل صورة رجل مسنٍ ذي لحية بيضاء إلى صورة شاب مقاتل ملتحٍ وعبارة: «هكذا كانت لتكون غزة من دون حماس». تكرّ السبحة بصور مفبركة لمقاتلين من «كتائب القسّام» يحملون السلاح وآخرين في الأنفاق. تليها صورة لرئيس المكتب السياسي لـ «حماس» يحيى السنوار يحمل طفلاً وفي يد الطفل بندقية. رسالة الإعلان جاءت واضحة باللغة والخطاب والصورة، ولا نيّة لنا في هذه المقالة أن نستعرض طبيعة حكم «حماس» في القطاع أو محاولة الدفاع عن وجودها. تهتم هذه المقالة بملاحقة الخرافة التي يدّعيها هذا الإعلان بخصوص الحياة في غزة قبل وجود «حماس»، مستندةً بالكامل على بثٍ مباشرٍ عبر اليوتيوب للمؤرّخ الأميركي نورمان فينكلستين الذي يعرض تاريخ غزة تحت الاحتلال الصهيوني وقبل إنشاء حركة «حماس».
نورمان فينكلستين: حوّلت إسرائيل غزة إلى معسكر اعتقال، وأرادت ترك السكان ليموتوا هناك

اللافت في البداية هو أنّ خطاب الباحث اليهودي المعادي للصهيونية فينكلستين، لم يأتِ رداً على هذا الإعلان الترويجي، بل كان تعليقاً على قرار محكمة العدل الدولية في ما يخص الدعوة التي قدّمتها جنوب أفريقيا. ويجب القول إنّ الفيديو جاء في تاريخ 25 كانون الثاني (يناير) أي قبل يومين من بث الإعلان (27 يناير)، لكنه للمصادفة يتحدّث عن القتل والتنكيل والانتهاكات التي قام بها الاستيطان في حقّ الفلسطينيين في غزة خلال فترة احتلالها. بدأ الأستاذ الجامعي حديثه من عام 1956 حين «تواطأت إسرائيل مع بريطانيا العظمى وفرنسا للإطاحة بالرئيس المصري جمال عبدالناصر. ولدى غزو مصر، احتلّت إسرائيل غزة التي كانت حينها تحت الإدارة المصرية، مرتكبة مجازر واسعة النطاق».
وقبل أن يستند فينكلستين إلى كلام بيني موريس، أحد أشهر المؤرّخين الإسرائيليين الجدد، ينبّه متابعيه: «يجب أن تأخذوا في الاعتبار أنّني لا أتحدث عن يوم أمس، ولا عن السنة الماضية، ولا حتى عن العقد الماضي، بل أتحدّث عن المذابح المستمرة للغزّيين». وفقاً لموريس، فإنّ مدينة خان يونس وقعت تحت الاحتلال في الثالث من تشرين الثاني (نوفمبر): «أطلقت القوات الإسرائيلية النار على المئات من اللاجئين والسكان المحليّين. وقبلها بيومين في مدينة رفح، قتلت إسرائيل بين 48 شخصاً و100 شخص». وبحسب مصدر الأمم المتحدة، فإنّ «إسرائيل قتلت حوالى 500 شخص في الأسابيع الثلاثة الأولى». ينتقل فينكلستين إلى المؤرّخ الفرنسي جان بيار فيليو (1961) الذي ألّف كتاب «تاريخ غزة» (فايار ـــــ 2012)، للتعليق على الأحداث ذاتها: «كانت الكلفة البشرية لاحتلال غزة في أربعة أشهر باهظة جداً، وإن أخذنا بأعداد الجرحى والمسجونين والأشخاص الذين تعرّضوا للتعذيب، يمكن القول إنّ واحداً من أصل مئة في غزة قد تعرّض للعنف والأذى الجسدي من قبل الغزاة». يشير فينكلستين إلى أنّ هذه النسبة من ضحايا الاحتلال قد تحققت اليوم في العدوان الصهيوني على غزة بعد أحداث 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023.
عند الاحتلال الثاني لغزة عام 1967، لم يتقبّل السكان الخضوع للاحتلال الصهيوني مرة أخرى. حاول العدو قمع المقاومة فيها بكل ما أوتي من قوة: «في عام 1970، قام جيش الاحتلال بوضع مخيمات اللاجئين هناك تحت الحظر مدة 24 ساعة. فتّشوا البيوت، وأجبروا العديد من الرجال الفلسطينيين على الوقوف وسط البحر لساعات طويلة أثناء عمليات التفتيش. كما رُحِّل 12 ألف شخص من بيوتهم تحت ذريعة الاشتباه بكونهم مقاومين، فزجّوهم في معسكرات الاعتقال». وفضحت الصحف العبرية ذلك بعد أسابيع من «ضرب الجنود وحرس الحدود للمعتقلين، وإطلاق النار على الحشود، وتحطيم الممتلكات والبيوت. فما كان من قوّات الاحتلال، سوى إضافة تكتيك القمع الوحشي المتمثّل في تضييق مخيمات اللاجئين. إذ اقتلعت أكثر من 13 ألف ساكن بحلول شهر آب (أغسطس). يتأرجح الباحث المناصر للقضية الفلسطينية بين الماضي والحاضر، وهو يقارب بين تاريخ الصهاينة في قطاع غزة والعدوان الحالي الذي دخل شهره الخامس مع بداية شباط (فبراير) 2024، محاولاً القول إنّ التاريخ يتكرّر مراراً وأنّ نكبة أهل غزة مستمرّة. يشير إلى تصريحات رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو الذي أعلن عن سياسة تقليص عدد السكان في غزة. الخطوة ذاتها اتّبعتها قوّات العدو في عام 1956 أيضاً حين قلّصت مخيمات اللاجئين. بعد عشرين عاماً على احتلال غزة، في الانتفاضة الأولى عام 1987 «أثبت الغزّيون أنّهم غير قابلين للكسر». وتمنّى العدو كما جاء على لسان وزير «دفاعه» إسحاق رابين «لو أنّ غزة تغرق في البحر»، فيتخلّص من أهلها.
يذكّر فينكلستين المشاهدين بأنّ الأحداث هذه لم تحصل بسبب حكم حركة «حماس» في غزة كما يروّج الاحتلال، فأكبر دليل على ذلك أنّ ما يعرضه يسبق بعقود وصول الحركة إلى السلطة. لكن ما فعلته «إسرائيل» ـــــ بحسب قوله الذي يعترف بأنّه قد يبدو قاسياً بالنسبة إلى كثيرين لكنّه «مستعد لتأكيده ودعمه» ـــ أنّها «حوّلت غزة إلى معسكر اعتقال، وتريد ترك السكان يتعذّبون ويموتون هناك». يؤكّد المؤرّخ الأكاديمي هذا الواقع بالاقتباس من الصحافية الإسرائيلية عميرة هاس (كان المؤرخ إيلان بابيه قد ذكرها في إحدى محاضراته الجامعية بعد السابع من أكتوبر)، التي أمضت وقتاً طويلاً في غزة بسبب عملها مراسلة في صحيفة «هآرتس» العبرية، وألّفت كتاباً عن غزة التي «تعرفها مثل كف يدها». في عام 2008، وصفت هاس ما حصل في القطاع في بداية التسعينيات، أي قبل أن يخرج الصهاينة منها وتخضع لحكم «حماس»: «معسكر الاعتقال، أي غزة، كان موجوداً في ظل ظروف أشد قسوة لما يقرب من ثلاثة عقود، خلافاً للدعاية الإسرائيلية (وهذا اقتباس عن عميرة هاس وليس فينكلستين)، وقبل أن تتولى «حماس» السلطة وتطوّر مهاراتها العسكرية. إسرائيل لديها هدف سياسي في ذهنها، أن تحوّل غزة إلى معسكر اعتقالي عملاق، يقطعها عن باقي الأراضي الفلسطينية، ليصبح قطاع غزة كياناً منفصلاً ومحروماً من الجذور التاريخية والانتماء». حقيقة يؤكّدها أحد كبار علماء الاجتماع لدى الاحتلال باروخ كيمرلينغ (2007-1939) الذي قال في عام 2000 إنّ «غزة أصبحت أكبر معسكر اعتقال على الإطلاق». يدرك فينكلستين أنّ الحقائق التي يطرحها، ستتعرّض حتماً للتشويه والتقليل من مصداقيتها، وإن استند في بحثه إلى اختصاصيين إسرائيليين أمثال هاس التي يعرّفها «المجتمع» الإسرائيلي بأنّها يسارية، وكيمرلينغ الذي يعتبرون أنّه كان متعاطفاً مع الفلسطينيين، فيذهب إلى الاقتباس من رئيس «مجلس الأمن القومي» السابق لكيان الاحتلال غيورا آيلاند معلّقاً بسخرية أنّ «السيد آيلاند يحمل رقماً قياسياً في موسوعة «غينيس» لعدد تصريحات الإبادة التي أدلى بها منذ السابع من أكتوبر». ففي عام 2004، وصف آيلاند ــ اليميني المتطرّف- غزة بأنّها «معسكر اعتقال ضخم». ويختم المؤرّخ بأنّ هذه استراتيجية الكيان الصهيوني للسيطرة على غزة وقمع أهلها الذين أثبتوا أنّهم «يرفضون الخضوع للاحتلال».
منذ انسحاب الصهاينة من القطاع ثم تولّي «حماس» السلطة على إثر الانتخابات الفلسطينية في عام 2006، فرض العدو الإسرائيلي حصاراً على القطاع «إذ وضع الناس على الحد الأدنى من النظام الغذائي الإنساني، فسمح بدخول كميات من المواد الغذائية لن تؤدي بسكان غزة إلى الجوع، لكنّها لن تبعدهم عن خطر المجاعة. منعت إسرائيل دخول الشوكولا والمربى والزنجبيل والفواكه والمكسرات والبسكويت والتشيبس. كما منعت دخول الآلات الموسيقية والدفاتر وأدوات الكتابة والألعاب والدجاج والماعز». برّر الاحتلال هذا الحصار بأنّه يريد منع «حماس» من تسليح نفسها، فأدى الحصار إلى تدمير اقتصاد القطاع، بحسب وصف الخبيرة الاقتصادية في «جامعة هارفرد» سارة روي: «إن اقتصاد غزة كان ممنهجاً له أن لا ينمو». بسبب الحصار الإسرائيلي للقطاع، أصبح ثمانون في المئة من السكان يعتمدون على المساعدات الدولية للبقاء على قيد الحياة. كما أصبحت مياهه، بنسبتها العظمى، ملوّثة وسامّة، وخمسون في المئة من الغزّيين دون الأمن الغذائي، أي إنّهم «لم يشعروا ببطنٍ ممتلئة لسنوات». وإن تركنا الحصار الاقتصادي قليلاً، هناك مصطلح بالعبرية صاغه الاحتلال عن العمليات التي يكررها في غزة بين الحين والآخر وهو «جزّ العشب» (mowing the grass) في إشارة إلى إستراتيجية التخلّص من المقاومين الفلسطينيين في غزة «أي المجازر التي يرتكبها الإسرائيليون في غزة بحق المدنيين والبنى التحتية» كما يشرح فينكلستين.
كانوا يطلقون النار على كل من يتحرك في الليل «كأنها لعبة كومبيوتر رائعة وحقيقية» (جندي صهيوني)


«ليس صحيحاً أنّ الغضب الذي تصبّه إسرائيل على غزة سببه السابع من أكتوبر»، فالجنود الصهاينة أنفسهم يروون ما كانوا يفعلونه قبل سنوات من عملية «الطوفان». أثناء عملية «الجرف الصامد» عام 2014، قامت مجموعة إسرائيلية بمقابلة الجنود وسألتهم عن الوضع في غزة، فجاء على لسان أحدهم: «حين غادرنا غزة بعد العملية العسكرية، كانت المنطقة مجرّد صحراء قاحلة. كمية الدمار الذي خلّفناه هناك جنوني. دخلنا غزة بكمية كبيرة من القوة النارية. بدا كأنّه فيلم خيال علمي. إطلاق نار مستمر ومستويات خطيرة من الدمار في كل مكان. كان عرضاً للألعاب النارية. إطلاق النار على كل من يتحرك في الليل كأنها لعبة كومبيوتر رائعة وحقيقية». ينهي المؤرّخ عرض الانتهاكات والمجازر باقتباسٍ لرئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر بيتر ماورر الذي تعتمد طبيعة عمله على زيارة أماكن القتال. عند زيارته غزة بعد تلك العملية، قال ماورر: «لم أرَ في حياتي مثل هذا الدمار الهائل من قبل».
كل تلك الشهادات لمؤرّخين واختصاصيين إسرائيليين وغربيين ممّن زاروا غزة خلال فترات احتلال العدو الصهيوني للقطاع بعد انسحابه وفرضه الحصار الاقتصادي، وتنكيله بالمدنيين وتعذيبهم وتقليص عدد السكان وتحويل المنطقة إلى «معسكر اعتقال»... كل ذلك قبل مجيء حركة «حماس» إلى السلطة في غزة. أما بالعودة إلى الإعلان الترويجي المصطنع والمولّد بتقنيات الذكاء الاصطناعي، فبالتأكيد لم تكن غزة يوماً كما الصور التي جاءت في الجزء الأول منه، إذ إنه كان مقدّراً لها أن «تغرق في البحر» وينكسر سكان غزة. ويبقى السؤال: بعد محاضرة نورمان فينكلستين التي جاءت قبل عرض الدعاية الإعلانية بيومين، هل باستطاعة كيان الاحتلال أن يدعو أحداً إلى زيارة «غزة الجميلة» ما قبل «حماس»؟