تقدّمت جمهورية جنوب أفريقيا في 29 كانون الأول 2023 بقضية أمام محكمة العدل الدولية ضدّ دولة «إسرائيل» على قاعدة ارتكابها جريمة إبادة جنس (جماعة) بشريّ genocide في غزّة، بناءً على المادّة 36 من النظام الأساسي للمحكمة، مستندة إلى المادّة 9 من «اتفاقية منع جريمة إبادة جنس بشريّ والمعاقبة عليها» لسنة 1948، التي صادقت عليها كل من جنوب أفريقيا و«إسرائيل»، من دون أي تحفّظ، فأصبحت ملزمة لهما. وأصبحت المحكمة مختصّة للنظر في القضية.جرى ذلك بعد أن أحالت جنوب أفريقيا الحالة في غزة، مع ثلاث دول أخرى، إلى المحكمة الجنائية الدولية عن طريق المدّعي العامّ لدى هذه المحكمة في 17 تشرين الثاني.

أوّلاً: الوقائع
أمّا الوقائع التي أدلت بها جنوب أفريقيا، فهي:
1- قتل الفلسطينيين في غزة:
فقد قتل الجيش الإسرائيليّ حتى تاريخ تقديم القضية أكثر من 21.110 فلسطينياً، ويُعتقد أنّ 70 في المئة منهم على الأقل من النساء والأطفال. وقد تم الإبلاغ عن وجود ما يقدّر بـ 7.780 شخصاً إضافياً، من بينهم ما لا يقلّ عن 4700 امرأة وطفل في عداد المفقودين. كما قُتل 311 من الأطباء، ومنهم الأكثر خبرة ومهارة، ومن الممرضين وغيرهم من العاملين في المجال الصحّيّ، وقتل 103 صحافيين و40 عاملاً في الدفاع المدني وأكثر من 209 معلّمين وموظفين تعليميين و4,037 من الطلاب والتلاميذ و144 موظفاً في الأمم المتحدة. وأن «انتشال الأجساد من تحت الأنقاض سيستغرق سنوات»، وسيكون من الصعب التعرف إلى أصحابها بعد تلك المدة.
2- التسبّب في أضرار جسديّة ونفسيّة جسيمة للفلسطينيين في غزة:
أُصيب بالأسلحة المختلفة، بما في ذلك الفوسفور البيض، أكثر من 55,243 فلسطينياً معظمهم من النساء والأطفال، ويُقدّر أن 1000 طفل فقدوا إحدى ساقيهم أو كلتيهما. وقُدّر عدد الجرحى من الطلاب والمعلمين بـ 7,259. أمّا عدد المدارس الفلسطينية التي تضرّرت أو دُمّرت، فكان 352، أي 74 %، وكان الأطفال وكبار السن والأشخاص ذوو الإعاقة يجبَرون على خلع ملابسهم باستثناء ملابسهم الداخلية في ظروف مهينة.
3- طرد الفلسطينيين من منازلهم وتهجيرهم:
جرى تهجير 1،9 مليون فلسطيني من أصل 2.3 مليون، ولم توفّر «إسرائيل» السلامة لأولئك الذين امتثلوا لأوامرها بإخلاء شمال غزة، ثم جرى طردهم قسراً مرة أخرى، إلى جانب سكان جنوب قطاع غزة، دون أن تحدّد المناطق التي ينبغي الجلاء إليها. وقد أتلفت إسرائيل أو دمّرت ما يقدّر بـ 355 ألف منزل فلسطيني، أي 60 % من المنازل. هذا وقد أكّدت «الأونروا» أن «المناطق الآمنة المعلنة من جانب واحد ليست آمنة على الإطلاق». فلا مكان في غزة آمناً.
إنّ هذا النزوح القسري هو إبادة جنس بشريّ، إذ يحدث في ظروف مصمّمة لإحداث الدمار الجسدي للغزيين.
4- حرمان الفلسطينيين في غزة من الوصول إلى الغذاء والماء الكافيين:
في 9 تشرين الأول 2023، أعلنت إسرائيل «حصاراً كاملاً» على قطاع غزة، مانعة دخول الكهرباء والطعام والماء والوقود إليه، ورغم أن الحصار قد جرى تخفيفه جزئياً، إلّا أن ما سمح به يقل كثيراً عن متوسط ما قبل تشرين الأول 2023؛ ثم إن واردات الوقود - التي سُمِح بها منذ 21 تشرين الثاني 2023 - هي أقل بكثير من الاحتياجات الدنيا للعمليات الإنسانية الأساسية.
5- حرمان الفلسطينيين في غزة من الوصول إلى مأوى وملابس ونظافة كافية:
معظم الـ1.9 مليون فلسطيني النازحين في غزة يبحثون عن مأوى في مرافق «الأونروا»، التي تتكوّن أساساً من المدارس والخيام؛ هذه الأماكن نفسها ليست آمنة، كما حشرت أعداداً كبيرة في منطقة المواصي، وهي شريط رملي قاحل يبلغ حوالى 14 كيلومتراً مربعاً على طول البحر الأبيض المتوسط، من دون مؤن إغاثة من ماء وطعام أو صرف صحي.
هذه الظروف المفروضة عمداً من قبل إسرائيل مصمّمة لإحداث دمار المجموعة الفلسطينيّة في غزة.
6- حرمان الفلسطينيين في غزة من المساعدة الطبية الكافية:
لقد أعلنت إسرائيل «حرباً لا هوادة فيها» على نظام الرعاية الطبية الضروري لحياة الفلسطينيين وبقائهم في غزة. فقد أظهرت إسرائيل تجاهلاً صريحاً وكلياً لحماية منشآت الرعاية الطبية. وتحوّلت المستشفيات المفترض أن تكون محميّة إلى مشارح وأنقاض. نتيجة القصف وإطلاق النار من الدبّابات والبنادق، وهي تُحاصَر وتُداهَم، ما يؤدي إلى مقتل المرضى والطاقم الطبي. وقد اضطرّ الأطباء إلى بتر أطراف للأطفال من دون تخدير أو أدوات جراحية معقّمة. وبسبب الإخلاء القسري من قبل الجنود الإسرائيليين، اضطرّ بعض الأطباء إلى ترك المرضى وراءهم بعد مواجهة اختيار بين حياتهم أو حياة مرضاهم.
واستهدف الجيش الإسرائيلي المولدات والألواح الشمسية للمستشفيات ومعدات أخرى حيوية مثل محطات الأوكسجين وخزانات المياه. كما استهدف سيارات الإسعاف والقوافل الطبية والمسعفين الأوائل.
لقد قُتل ما لا يقل عن 570 فلسطينياً في المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية في غزة وأصيب 746 آخرون، وهناك مئات الآلاف من الفلسطينيين في غزة لا يزالون بحاجة إلى الرعاية الطبية الروتينية، ويعتمد ما يقدّر بـ 130 طفلاً خديجاً على الحاضنات للبقاء على قيد الحياة في أي وقت، عدد منهم الآن غير قادر على تلقّي المساعدة الطبية.
في مقال نُشر في المجلة الطبية البريطانية، The Lancet، أبرزت مجموعة من الأطبّاء «الأبعاد الصحية للعنف الناجم عن الحصار المستمرّ والهجمات ضدّ الفلسطينيين» محذّرين بحقّ من «خطر جسيم لإبادة الجماعة الفلسطينيّة في غزّة».
7- تدمير الحياة الفلسطينيّة في غزّة:
هناك نوايا أعلنت بـ«تسوية غزّة بالأرض» وإعادة إقامة المستوطنات الإسرائيليّة على أنقاض المنازل الفلسطينيّة، ففي جميع أنحاء غزّة، استهدفت إسرائيل البنية التحتيّة وأسس الحياة الفلسطينيّة، مخلّفة عمداً ظروف حياة مصمّمة لإحداث الدمار الجسدي للشعب الفلسطيني؛ فالصحافيون المشهورون في غزّة، ومعلموها ومثقّفوها والشخصيات العامّة، وأطبّاؤها وممرضاتها، وصانعو أفلامها وكتّابها ومغنّوها، ومديرو جامعاتها وعمداؤها، ورؤساء مستشفياتها، وعلماؤها البارزون، واللغويون والكتّاب المسرحيّون والروائيّون والفنانون والموسيقيّون، قتلتهم إسرائيل وتقتل الرواة والشعراء والفلاحين والصيادين الفلسطينيّين.
8- فرض تدابير تهدف إلى منع ولادات فلسطينيّة:
في 22 تشرين الثاني 2023، حذّرت المقرّرة الخاصّة للأمم المتحدة بشأن «العنف ضدّ المرأة والفتيات» صراحةً من أن «العنف الإنجابي الذي تسبّبت فيه إسرائيل للنساء و الرضّع والأطفال قد يعدّ... من أعمال إبادة جنس بشريّ بموجب المادّة 2 من اتفاقية منع الإبادة الجماعية... بما في ذلك فرض تدابير تهدف إلى منع الولادات ضمن المجموعة (الفلسطينية)».

ثانياً: ملاحظة شخصيات عالمية نيّة إسرائيل الإبادية
وصف عدد من الشخصيات العالمية أفعال إسرائيل هذه بأنها إبادة جنس بشري؛ ومنهم:
رؤساء الجزائر وبوليفيا والبرازيل وكولومبيا وكوبا وإيران وتركيا وفنزويلا، وكذلك مسؤولون حكوميون وممثلون من بنغلادش ومصر وهندوراس والعراق والأردن وليبيا وماليزيا وناميبيا وباكستان وسوريا وتونس وقطر وموريتانيا.
وفي 16 تشرين الثاني 2023، حذّر 15 من المقرّرين الخاصّين للأمم المتحدة و21 عضواً من مجموعات العمل التابعة للأمم المتحدة من «إبادة جنس بشريّ قيد التنفيذ» في غزة، مشيرين إلى أن مستوى الدمار الذي حدث بحلول ذلك الوقت في «الوحدات السكنية، وكذلك المستشفيات والمدارس والمساجد والمخابز وأنابيب المياه وشبكات الصرف الصحي والكهرباء... يهدّد باستحالة استمرار حياة الفلسطينيين في غزّة».
وثّقت دعوى جنوب أفريقيا تصريحات القادة الصهاينة وتعليماتهم لجيشهم والتي تكشف نيّة إبادة جنس بشري في غزة


ثالثاً: تعبير المسؤولين الإسرائيليين عن نيّة إبادة
وثّقت دعوى جنوب أفريقيا تصريحات القادة الصهاينة وتعليماتهم لجيشهم والتي تكشف نيّة إبادة جنس بشري في غزة؛ فرئيس الوزراء الإسرائيليّ أكّد في مناسبات عدة وفي تعليمات للجيش نيّة دولته الضرب بقوّة وفي كلّ مكان ضد «الوحوش البشرية»، وأن هذه معركة «أبناء النور ضدّ أبناء الظلام»، و«لن نتوقّف عن مهمّتنا حتّى يتغلّب النور على الظلام». كان ذلك فيما كان الجيش الإسرائيليّ يقتل المئات ومعظمهم من الأطفال والنساء، كلّ يوم.
واستحضر رئيس الوزراء غير مرّة القصة التوراتيّة حول هزيمة العماليق على يد بني إسرائيل: «الآن اذهب، هاجم عماليق، واحرم كل ما يخصه. لا تشفق على أحد، بل اقتل على حد سواء الرجال والنساء، الأطفال والرضّع، الثيران والأغنام، الجمال والحمير».
وأوضح الرئيس إسحاق هرتسوغ أنّ «إسرائيل» لا تميّز بين المسلّحين والمدنيين في غزّة، فقد أعلن في مؤتمر صحافيّ لوسائل إعلام أجنبية، في ما يتعلّق بالفلسطينيين في غزّة، والذين يزيد عدد أطفالهم على المليون: «إنها أمّة بأكملها هناك مسؤولة. ليس صحيحاً هذا الخطاب عن المدنيين غير المدركين وغير المشاركين. ليس صحيحاً على الإطلاق... وسنقاتل حتى نكسر عمودهم الفقري». وكان هرتسوغ يكتب بخط اليد «رسائل» على القنابل التي ستُلقى على غزّة.
وزير الدفاع في «تحديث الوضع» للجيش الإسرائيلي يصرّح بأن إسرائيل «تفرض حصاراً كاملاً على غزّة. لا كهرباء، لا طعام، لا ماء، لا وقود. كلّ شيء مغلق. نحن نقاتل حيوانات بشريّة»؛ كما أبلغ القوات على حدود غزّة بأنّه «ألغى جميع القيود» وأن «غزة لن تعود كما كانت من قبل. سنقضي على كلّ شيء».
وزير الأمن القوميّ بن غفير، في خطاب تلفزيونيّ، يقول: «لتكن الأمور واضحة، عندما نقول إنّ حماس يجب أن تُدمّر، فهذا يعني أيضاً الذين يحتفلون، والذين يدعمون، والذين يوزّعون الحلوى - جميعهم إرهابيّون، ويجب أن يُدمّروا أيضاً».
وزير الطاقة والبنية التحتيّة إسرائيل كاتس، يصرّح لـ«تويتر»: «جميع السكّان المدنيّين في غزّة مأمورون بمغادرة المكان فوراً. سننتصر. لن يتلقّوا قطرة ماء أو بطاريّة واحدة حتّى يغادروا العالم»؛ «لن يُشغَّل أي مفتاح كهربائي، ولن يُفتح أي صنبور ماء، ولن تدخل أي شاحنة وقود، حتّى يُعاد الأسرى الإسرائيليون إلى ديارهم. ولا يعظنا أحد بالأخلاق».
وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، صرّح في 8 تشرين الأول 2023، في اجتماع مجلس الوزراء، أنه «علينا توجيه ضربة لم يُشهد لها مثيل منذ 50 عاماً وإسقاط غزّة».
وزير التراث أميحاي إيلياهو، ينشر على «فايسبوك»: «شمال قطاع غزة، أجمل من أي وقت مضى. كل شيء مدمّر ومسطّح، متعة بصرية حقيقية... سنوزع قطع الأراضي على كلّ من قاتل في غزّة على مرّ السنين... لا وجود لمدنيين غير متورّطين في غزة». وطرح فكرة الهجوم النووي على قطاع غزّة.
وزير الزراعة أفي ديختر، في مقابلة تلفزيونية، يستذكر نكبة 1948 ويقول: «نحن الآن نطرح نكبة غزّة بالفعل».
نائب رئيس الكنيست نسيم فاتوري، غرّد قائلاً: «الآن لدينا جميعاً هدف مشترك، محو قطاع غزّة من على وجه الأرض».
كما صدرت تصريحات مماثلة من قبل مسؤولين في الجيش الإسرائيلي، ومستشارين ومتحدّثين، وآخرين يتفاعلون مع القوات الإسرائيلية المنتشرة في غزة:
منسق أنشطة الحكومة الإسرائيلية في المناطق (COGAT) اللواء غسان عليان، يصرّح: «حماس أصبحت مثل داعش ومواطنو غزّة يحتفلون بدلاً من أن يشعروا بالرعب. الحيوانات البشريّة تعامل وفقاً لصفتها هذه. فرضت إسرائيل حصاراً كاملاً على غزّة، لا كهرباء، لا ماء، أردتم جهنّم، ستحصلون عليها».
الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي، ومستشار وزير الدفاع جيورا إيلاند، يقول: «نحن نقطع إمدادات الطاقة والماء والديزل عن القطاع... ولكن هذا ليس كافياً. لجعل الحصار فعّالاً، علينا منع الآخرين من تقديم المساعدة لغزّة». ويقول أيضاً: «عندما تكون في حرب مع دولة أخرى لا تطعمهم، لا تزوّدهم بالكهرباء أو الغاز أو الماء أو أيّ شيء آخر... على إسرائيل ضرب محطّات معالجة المياه في غزّة... علينا خلق وضع رهيب في غزّة وغير محتمل، يمكن أن يستمر لأسابيع وأشهر. يجب دعم عملية عسكرية ضدّ مستشفى الشفاء، حتى لو كانت هناك آلاف الجثث من المدنيّين في الشوارع بعد ذلك. لا ينبغي التمييز بين مقاتلي حماس والمدنيين الفلسطينيين؛ مَن هنّ النساء "الفقيرات" في غزّة؟ هنّ الأمهات والأخوات أو الزوجات لقتلة حماس، هنّ جزء من البنية التحتية التي تدعم المنظمة...»، ويضيف: «الأوبئة الشديدة في جنوب قطاع غزّة ستقرب النصر؛ (أعداؤنا) ليسوا فقط مقاتلي حماس المسلّحين، ولكن أيضاً جميع المسؤولين "المدنيين"، بما في ذلك مديرو المستشفيات والمدارس، وأيضاً كلّ سكّان غزّة الذين دعموا حماس بحماسة وهلّلوا لفظائعها في 7 تشرين الأول».
إزرا ياخين، جندي احتياط في الجيش الإسرائيلي يبلغ من العمر 95 عاماً - وهو من قدامى مذبحة دير ياسين خلال النكبة عام 1948 - تم استدعاؤه للخدمة الاحتياطية لـ«رفع معنويات» القوات الإسرائيلية قبل الغزو البرّي، تمّ بثّ خطاب له يقول فيه: «كونوا منتصرين وأنهوهم ولا تتركوا أحداً خلفكم. امحوا ذكرهم. امحوهم، عائلاتهم، أمّهاتهم وأطفالهم. لا يمكن لهؤلاء الحيوانات أن يعيشوا بعد الآن...».
رئيس مجموعة عمليات الطيران في الجيش الإسرائيلي المقدّم جيلاد كينان، يقول: سلاح الجوّ «يعمل مع جميع الهيئات في جيش الدفاع الإسرائيلي عندما يكون الهدف واضحاً، تدمير كلّ شيء لمسته يد حماس».
قائد في الكتيبة 2908 يائير بن داود يقول: إنّ الجيش الإسرائيلي «دخل بيت حانون وفعل هناك كما فعل شمعون وليفي في نابلس»، والمقصود في النصّ: «في اليوم الثالث، عندما كانوا في ألم، أخذ شمعون وليفي، اثنان من أبناء يعقوب، إخوة دينا، كلّ واحد مع سيفه، جاؤوا إلى المدينة من دون مضايقات، وقتلوا كلّ الذكور» (سفر التكوين، 34:25).
ويقول العقيد يوغيف بارشيشيت في فيديو: «من يعود إلى (بيت لاهيا)، إذا عاد بعد ذلك، سيجد أرضاً محروقة. لا بيوت، لا زراعة، لا شيء. ليس لديهم مستقبل»؛ وفي الفيديو نفسه، علّق العقيد إيريز إيشيل (احتياط)، قائلاً: «الانتقام قيمة عظيمة. هناك انتقام عمّا فعلوه بنا... هذا المكان سيكون أرضاً بوراً. لن يتمكّنوا من العيش هنا».
جنود الجيش الإسرائيلي: تم تصويرهم بالزي الرسمي في 5 كانون الأوّل 2023 وهم يرقصون ويهتفون ويغنّون «لتحترق قريتهم، لتمحَ غزّة»؛ وبعد يومين، في مناسبة منفصلة داخل غزّة في 7 كانون الأول 2023، يرقصون ويغنّون ويهتفون «نحن نعرف شعارنا: لا يوجد مدنيون غير متورّطين» و«لمحو نسل عماليق».
ويعلّق الادعاء بالقول: «تشكّل هذه التصريحات من قبل أعضاء بارزين في المجتمع الإسرائيلي - بما في ذلك نواب سابقون ومذيعون إخباريون - تحريضاً واضحاً ومباشراً وعلنياً على إبادة جنس بشريّ، وهم لا يجري التحقيق معهم أو معاقبتهم من قبل السلطات الإسرائيلية».

رابعاً: في القانون
وهكذا ترى جنوب أفريقيا أنّ سلوك إسرائيل، عبر أجهزة الدولة فيها، تجاه الفلسطينيين في غزة، ينتهك التزاماتها بموجب اتفاقية إبادة جنس بشري، وتشمل هذه الانتهاكات، من دون أن تقتصر عليه، ما يأتي:
(أ) الفشل في منع إبادة جنس بشري، بما يخالف المادّة الأولى من الاتفاقية
(ب) ارتكاب إبادة جنس بشريّ، بما يخالف المادّة الثالثة (أ)
(ج) التآمر لارتكاب إبادة جنس بشريّ، بما يخالف المادّة الثالثة (ب)
(د) التحريض المباشر والعلني على ارتكاب إبادة جنس بشريّ، بما يخالف المادّة الثالثة (ج)
(هـ) محاولة ارتكاب إبادة جنس بشريّ، بما يخالف المادّة الثالثة (د)
(و) المشاركة في ارتكاب إبادة جنس بشريّ، بما يخالف المادّة الثالثة (هـ)
(ز) الفشل في معاقبة مرتكبي الجرائم المذكورة أعلاه، بما يخالف الموادّ الأولى والثالثة والرابعة والسادسة
(ح) الفشل في سنّ التشريعات اللازمة لإعطاء مفعول لأحكام اتفاقية إبادة جنس بشريّ، وسنّ عقوبات فعالة للأشخاص المذنبين بالجرائم المذكورة أعلاه، بما يخالف المادة الخامسة
(ط) الفشل في السماح و/أو عرقلة التحقيق بشكل مباشر أو غير مباشر من قبل الهيئات الدولية المختصة أو بعثات تقصي الحقائق بشأن الأعمال الإبادية المرتكبة ضد الفلسطينيين في غزة، بما في ذلك أولئك الفلسطينيون الذين تم نقلهم بواسطة عملاء أو قوات الدولة الإسرائيلية إلى «إسرائيل»، كالتزام ضروري ومكمّل وفقاً للمواد الأولى، الثالثة، الرابعة، الخامسة، السادسة.

تمتلك المحكمة السلطة لاتّخاذ إجراءات مؤقّتة «بمجرّد أن تبدو الأحكام التي يعتمد عليها المدّعي أنّها توفّر أساساً يمكن بناء اختصاصها عليه»


خامساً: ضرورة الإجراءات المؤقّتة
طالبت جنوب أفريقيا رئيس المحكمة أوّلاً ثمّ المحكمة تالياً باتّخاذ إجراءات احترازيّة لوقف الضرر المتمادي، بناءً على ما يأتي:
أ‌- الظروف القاهرة تتطلّب اتّخاذ إجراءات مؤقّتة:
عملاً بالمادّة 74 (4) من لائحة المحكمة، طالبت جنوب أفريقيا رئيس المحكمة بدعوة إسرائيل إلى الوقف الفوريّ لجميع الهجمات العسكرية التي تشكّل انتهاكات لاتفاقية منع إبادة جنس بشري ريثما تبدأ الجلسات.
ب‌- الاختصاص الأوّلي للمحكمة:
تمتلك المحكمة السلطة لاتّخاذ إجراءات مؤقّتة «بمجرّد أن تبدو الأحكام التي يعتمد عليها المدّعي أنّها توفّر أساساً يمكن بناء اختصاصها عليه، وليس من الضروريّ أن تقتنع بشكل نهائيّ بأنّ لديها الاختصاص فيما يتعلّق بأساس القضية».
ج- خطر الضرر الملحّ الذي لا يمكن إصلاحه
ويتمثّل في الاستمرار بارتكاب جريمة إبادة الجماعة الغزية.
وقد دعمت جنوب أفريقيا اتّهاماتها بـ 574 مادّة، بين مصدر ومرجع ووثيقة.

سادساً: ردّ وكلاء «إسرائيل»
حاول وكلاء «إسرائيل» أن يهوّلوا على جنوب أفريقيا، فأثاروا أنّ «حماس» منظّمة إرهابيّة وجنوب أفريقيا تقيم علاقات معها وتقدّم لها الدعم. وقد استضافت وفداً من «حماس» بعد 7 تشرين الأول. إذاً، هي تشارك في «جريمة» 7 تشرين. ردّت جنوب أفريقيا بأنّها لا تعدّ «حماس» منظمة إرهابية، بل حركة مقاومة. كما أثاروا القوانين المتعلّقة بالرهائن، وتبنّى مجلس الأمن القرار 2720 القاضي بإطلاق الأسرى من دون شرط وإيصال المساعدات. ولم يثيروا مسألة اعتقال آلاف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية وما يتعرّضون له من تنكيل وتجاهل مجلس الأمن لقضيّتهم.
-دفاع عن النفس: وبدأ الوكلاء دفاعهم بالقول إنّ ما يجري «حرب لم نبدأها بل بدأتها حماس». وهذا ما يمنح «إسرائيل»، في رأي رئيس الوفد الإسرائيلي البريطاني مالكوم شو، «الحقّ بالدفاع عن نفسها وعن مواطنيها وباستعادة مخطوفيها». وذلك مع عرض مشاهد «وحشيّة» وتصريحات حول إبادة اليهود. وفي هذا تجاهل لحقائق ثلاث كرّسها القانون والأعراف الدولية والداخلية:
1- أنّ الدفاع عن النفس لا يستقيم مع العدوان والاحتلال والحصار والقتل خارج القانون
2- وأنّ للمعتدى عليه بالطرق المذكورة يمتلك الحق بمقاومة المعتدي أين ما طالته يده
3- وأن الردّ، في حالة التعرّض للعدوان، إن حصل، يجب أن يكون متناسباً مع الفعل.
وادّعى شو أنّ «حماس» تجاوزت الحدود الدوليّة وارتكبت إبادة جنس بشري، إذ أحرقت الناس وقطّعت أطراف الأطفال، من دون أن يأتي بأي إثبات على مزاعمه، سوى ما نسبه إلى غازي حمد من قول: ما قمنا به مبرّر. ويتجاهل ما نشرته وسائل الإعلام الأميركية والإسرائيلية من أن الجيش الإسرائيلي هو الذي قتل الإسرائيليين الموجودين مع المقاومين عندما كانوا ما يزالون في غلاف غزة.
ويتابع السيد شو قائلاً: إنّ إسرائيل تحترم القانون الدولي الإنسانيّ، مبدياً أسفه على الأضرار المدنيّة، التي حصلت بصفة أضرار جانبية تغتفر مع الهدف العسكريّ، ويزعم أن معظم المدمّر منشآت تخصّ «حماس».
وهكذا يريد «الفقيه» المحترم أن يقنعنا بأنّ مقتل 25 ألفاً من المدنيين، و70% منهم من النساء والأطفال، مبرّر أمام الهدف العسكريّ المزعوم، ضارباً بعرض الحائط مبدأ الضرورة والتناسب الذي يفرضه القانون الدولي الإنساني.
- تشويه تصريحات المسؤولين الإسرائيليّين: أمّا عن تحريض المسؤولين الإسرائيليين على ارتكاب ما أورده الادعاء من جرائم، فيردّ الدفاع بأنّ جنوب أفريقيا شوّهت تصريحات المسؤولين الإسرائيليّين، وأخذت تصريحات عشوائيّة، وكلمات أُخرجت من سياقها. وهذا أمر مضلّل. لكن فرسان الدفاع لم يبيّنوا لنا ما كانت التصريحات التي شوهت.
وزعموا أنّ مقدّمة الدعوى توصيف متلاعَب به، وغير حقيقي، للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني؛ لكنّهم لم يقدّموا للمحكمة التوصيف الصحيح المستند إلى الوثائق والحقائق.
ثم انبرى الدفاع لمسألة نيّة ارتكاب جريمة إبادة جنس بشري (م2 من من الاتّفاقيّة)، فنفوا وجود هذه النيّة لدى المسؤولين الإسرائيليين، ونسبوها لـ«حماس». واكتشفوا أن جنوب أفريقيا تجاهلت المعطيات والتصريحات المناقضة لنيّة إبادة جنس بشريّ، فتحدّثوا عن هيكلية اتّخاذ القرارات، وعن وجود كتاب توجيهات للجيش، وعن أن الحكومة تراقب التصريحات، وأن رئيس الوزراء سعى جاهداً إلى تفادي كارثة إنسانيّة، وأن الحكومة أصدرت توجيهاتها للعسكريّين بعدم محاربة الشعب، ودافعوا عن تصريحات رئيس الحكومة بشرحها وتأويلها.
وبهذا، «أثبتوا» أن «إسرائيل» لم تتجاوز قواعد الحرب، وهي، على كلّ حال، ستجري تحقيقاً حول الاتّهامات، والذي منع لجان التحقيق من الوصول إلى غزّة، كما يقول كريستوفر سيكر، هم المصريّون وليس «إسرائيل». وهذا ما نفاه المسؤولون المصريون بشدّة.
وهكذا بكلّ بساطة فإنّ التعليمات المزعومة والتصاريح والكراريس تنهض وسائل إثبات في وجه الحقائق الصارخة القائمة بكلّ عناد على الأرض.
- اتّهامات لـ«حماس»: ومن أجل تبرئة الجيش الإسرائيليّ أو تبرير أفعاله، طرحت المدعوّة راجوان من فريق الدفاع عدداً من «المعلومات»:
صواريخ «حماس» ضلّت طريقها وضربت المستشفى المعمدانيّ. وصواريخ أُطلقت من مقرّات الأمم المتّحدة، والمقاتلون يدخلون المستشفيات. وهناك عاملون في المستشفيات من «حماس» وهذا من ضمن إستراتيجيّة «حماس» لجعل المستشفيات معسكرات. «حماس» زرعت عناصرها وسط المدنيّين وفتحت الأنفاق في المساجد والمستشفيات.
وتستند راجوان هنا على معلومات من المخابرات الأميركية والجيش الإسرائيلي. وكم هي موثوقة هذه المصادر!
ويحاول السيد شو التخفيف ممّا يلقاه المدنيّون في غزة، فيذهب إلى أنّ المعاناة لا تقتصر عليهم. ويزعم أن «حماس» تعظم عدد القتلى من المدنيين، فالأعداد في نظره غير موثوقة.
ثم يعرّج على «جهود إسرائيل للحفاظ على المدنيّين»، فإخلاؤهم يجري للحفاظ عليهم، وهذا خشية من أن تتّخذهم «حماس» دروعاً بشريّة! ولهذا فقد رمى الجيش الإسرائيلي منشورات وبثّ تحذيرات من الإذاعة وأجرى اتّصالات هاتفيّة للتحذير من الهجمات. لكن «حماس» تمنعهم، حسب السيد شو، من المغادرة بالقوّة، هذا رغم أنّ إسرائيل لم توفّر أيّ مكان آمن للمهجرين قسراً.
- المساعدات: أمّا عن المساعدات، فيقول مالكوم شو وأومي سندر إنّ إسرائيل قدّمت 4 مستشفيات ميدانيّة ومستشفيين عائمين ومستشفيين قيد الإنجاز («وليتكِ لم تزني ولم تتصدقي»!).
ويضيف السيد سندر أنّه لا قيود على دخول الماء، وغاز الطبخ؛ وإن إسرائيل تسهّل وصول المساعدات، فقد كانت قبل الحرب تدخل 70 شاحنة يوميّاً، فدخلت 109 شاحنات الأسبوع الماضي، إلى جانب إنزال المساعدات جواً؛ والحقيقة أن قطاع غزة يحتاج إلى أضعاف ما يدخل إليه.
أمّا سبب الحاجة في القطاع، فترى راجوان أنّ «حماس» تسيطر على المساعدات وتسرقها وتسرق حتّى «الأونروا». وأنّ من الضروريّ تفتيش الشاحنات لمنع «حماس» من تهريب السلاح فيها. وتتّهم راجوان «حماس» بسوء إدارة للقطاع بدلاً من جعله مزدهراً، ولا تحمّل إسرائيل أي مسؤولية عن الحصار.
- التدابير الاحترازيّة: ويستنكر الدفاع طلب فرض التدابير الاحترازيّة، لأنها ستلحق ضرراً بإسرائيل لا يمكن جبره. ويرى كريستوفر سيكر أن الشروط الضروريّة للإجراءات العاجلة ليست متوافرة. ويقول لومي سندر: إنّ عنصر الإلحاح الذي يشكّل شرطاً من شروط ضرر لا يمكن إصلاحه ليس موجوداً. وأنّ التدابير الاحترازيّة ستلحق ضرراً بإسرائيل لا يمكن جبره. ويدّعي سيكر ألّا تهجير قسريّاً، وأنّ التدابير الاحترازيّة ستسمح لـ«حماس» بتجديد قوّتها لتمارس الإرهاب.
وأخيراً، يزعم مالكوم شو أنّ طلب الإجراءات الأوّليّة يستند إلى أنّ هناك إبادةً جماعيّة، لكن هذا ليس ثابتاً.
وهكذا، فإن الدفاع لا يرى ضرورةً لوقف طاحونة القتل والدمار، ويدعو إلى استمرار شلّال الدماء والخراب.

* أستاذ في كلية الحقوق، الجامعة اللبنانية