في آذار 1949، أعلنت تركيا اعترافها بإسرائيل، أي بعد عشرة أشهر فقط على إعلان الدولة. آنذاك، كانت تركيا تحت حكم زعيم «حزب الشعب الجمهوري»، عصمت إينونو، الذي قامت أيديولوجيته أساساً على علمانية كانت أقرب إلى محاولة «تغريب» البنيان والمجتمع التركيين، اللذين ظلّا لأربعة قرون مركزاً للخلافة الإسلامية، الأمر الذي شجّعه الغرب عبر إعلان الولايات المتحدة، عام 1948، ضمّ تركيا إلى «مشروع مارشال» الذي أطلقته الأولى لمساعدة الدول الأوروبية التي أنهكتها الحرب العالمية الثانية. مثّل وصول عدنان مندريس إلى رئاسة الحكومة عام 1950، انعطافة حادّة عمّا جرى الترتيب له منذ 1923، واختباراً لمسارات عدّة أبرزها طبيعة العلاقة التي سيرسمها النظام ذو الصبغة الإسلامية، مع الغرب، وكذا مع إسرائيل التي كان قد مضى عامان على انزراعها في المنطقة. لكن ما حدث هو أن مندريس مضى باندفاعة تركيا - أتاتورك، عبر الإعلان عن انضمامه إلى حلف «الناتو» عام 1952، ثمّ إلى ذراعه الإقليمية «حلف بغداد» عام 1955، ما أنبأ بقراءة للجغرافيا التركية مفادها أن الأخيرة يمكن لها أن تلعب دور «السد» في وجه التمدّد الشيوعي، وفي الآن ذاته دور «المطرقة» القادرة على لجم محاولات النهوض التي كانت طبْعتها الناصرية في أوج تألقها آنذاك. ثم ما لبث أن مضى في تفعيل تقاطعاته مع الكيان الوليد، حيث سيمثّل لقاؤه مع بن غوريون عام 1958 خطوة متقدّمة على ذلك المسار. وفي اللقاء المذكور، قال الأخير، عانياً إسرائيل وتركيا وإيران وإثيوبيا، إن «على الأطراف المعادية لعبد الناصر، الاتحاد في إطار المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة. كما أن على تلك الأطراف تعزيز علاقاتها السياسية والأمنية والاقتصادية».
أسّست مرحلة مندريس، والنهاية المأساوية التي لقيها بإعدامه عام 1961، لصراع مجتمعي - سياسي، لم يلبث أن تمظهر في العديد من الانقلابات التي شهدتها البلاد، توازياً مع تسجيل بعض المحاولات التي هدفت إلى استعادة الاستقرار عبر صناديق الاقتراع، الأمر الذي غالباً ما كان ينتهي بتدخّل الجيش بذريعة حماية «العلمانية» التي تعني هنا «التغريب». والشاهد هو أن وصول زعيم حزب «الرفاه» الإسلامي، نجم الدين أربكان، إلى السلطة عام 1996 عبر الآلية سابقة الذكر، كان قد شهد المصير نفسه الذي لقيته محاولة مندريس، وإن لم يكن بالسوداوية نفسها على صعيد المآل الشخصي. بدا أربكان في غضون عام واحد من إمساكه بالسلطة، مدركاً لخطورة المساس بالنظام العلماني والعلاقة مع الغرب، الأمر الذي تأكّد عبر مضيّه في تنفيذ الاتفاقات المبرمة مع إسرائيل من دون تردد، بل زاد عليها أن زار الأخيرة لزيادة التعاون العسكري معها. وفي تلك الزيارة أعطى موافقته على منح الطيارين الإسرائيليين حق التدرّب في الأجواء التركية. وما تقوله تجربة أربكان هو أن النظام التركي ومشروعيته قائمان على محدّدات ارتسمت حين الإعلان عن ولادته عام 1923، وهي تقوم على قراءة الحقائق الجيوسياسية التي تفرض نفسها، متفوّقة على الأيديولوجيات التي تتبنّاها الأحزاب والتيارات حتى بعد وصول هذه الأخيرة إلى الحكم.
الموقف من العدوان الإسرائيلي سيكون كفيلاً بقص أذرع التمدّد التي أوجدتها «العثمانية الجديدة»


لم يخرج رجب طيب إردوغان، تلميذ أربكان، عن القواعد الجيوسياسية تلك، بل استثمر فيها ووضعها في خانة حماية نظامه الذي مضى 21 عاماً على قيامه، لكن مع إضافة بعض التلوينات الأيديولوجية التي تفعل فعلها في شدّ عصب حزبه من جهة، وشد عصب ذات جمعية تكتنز في دواخلها قيم الإسلام وأفكاره من جهة أخرى. والشاهد هو أن إردوغان مضى، منذ بدء مواجهات غزة، في شدّ ذينك العصبين. جرى ذلك في مؤتمر «دافوس 2009»، عندما تصادم مع الرئيس الإسرائيلي السابق، شيمون بيريز، ثم تثنّى في العام التالي بعد حادثة سفينة «مرمرة»، ثم عام 2018 حين اعترف دونالد ترامب بالقدس عاصمة للكيان. لكن الخط البياني للعلاقة التجارية التي تربط تل أبيب بأنقرة ظل يسجّل منحى تصاعدياً، غير متأثر بطقوس الغضب التي راح إردوغان يجترح نماذج جديدة منها. والخط إياه كان قد بدأ عند 1.4 مليار دولار عام 2002، حين وصل إردوغان إلى السلطة، ثم وصل إلى 8.9 مليارات دولار عام 2022، في ملمح يؤكد أن «الغضب» و«الأخوّة» الأيديولوجية ليسا أكثر من حالة استعراضية استولدتها احتياجات محدّدة، فيما لم يجد إردوغان لتبرير ذلك إلا القول: «لا علاقة بين السياسة والاقتصاد والتجارة».
ثمّة مؤشرات قوية تقول إن مواقف إردوغان من حرب غزة التي شهدت تصعيداً يوم 25 تشرين الأول، عندما قال إن «حماس ليست منظمة إرهابية، بل هي حركة تحرر وطني»، وصولاً إلى ذروة بلغتها في 27 كانون الأول بقوله إن «نتنياهو لا يختلف عن هتلر»، وثيقة الصلة بإشكالية المشروع الهندي - الأوروبي - الشرق أوسطي الذي أعلنت واشنطن عنه في 10 أيلول الماضي، والذي تهدف من ورائه إلى منافسة مشروع «الحزام والطريق» الصيني. ما يزعج إردوغان هو أن بلاده ستكون من زمرة الخاسرين من ذلك المشروع، مع دول أخرى مثل روسيا وإيران. وموقفه المنكفئ مما يحدث في غزة مردّه رهان على أن يفكر «المصمّمون» بتعديل مسارات المشروع لتحطّ رحالها ما بين الساحلين التركي والإسرائيلي، ثم تحطّ أنابيب الطاقة والغاز، العابرة إلى الأوروبيين، رحالها هي الأخرى في الموانئ التركية.
بالنتيجة، يمكن لحظ حركة «التلفريك» التركي ما بين «جبل» الأيديولوجيا و«هضبة» المصالح عبر محطتين بارزتين: ففي 2010، اقتحمت القوات الإسرائيلية كبرى سفن «أسطول الحرية» المنطلق في اتجاه شواطئ غزة لكسر الحصار عنها، لتقتل تسعة أتراك، وتتسبّب في قطيعة استمرت سنوات. آنذاك، كان الاقتصاد التركي «واقفاً»، وهو يعطي الفرصة لحركة «التلفريك» صعوداً، أي من الهضبة إلى الجبل. وفي 18 تشرين الأول 2023، نقلت قناة «كان» العبرية خبراً يقول إن «سفينة تركية رست في ميناء حيفا، وهي تحمل خمسة آلاف طن من الخضار والفواكه لسدّ حاجة إسرائيل بسبب الأضرار التي لحقت بالعديد من المناطق» جراء «طوفان الأقصى». عندها، كان الاقتصاد التركي «جاثياً»، ما حتّم حركة «التلفريك» هبوطاً. والراجح هنا، أن الموقف من العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين سيكون كفيلاً بقص أذرع التمدّد التي أوجدتها «العثمانية الجديدة» في المنطقة.