تُشير الوثائق التي تكشّفت بعد عقود من عام 1948، إلى أن الغرب كان ينظر، إبّان دراسته استيلاد إسرائيل، إلى نسيج المنطقة الاجتماعي والاقتصادي، ثم الثقافي - كانعكاس لهما -، والذي يتّسم، ضمناً، بمميزات من نوع الإرادة والقدرة على مواجهة التحديات، على أنه نسيج هش إلى درجة لا تستدعي القلق بما يخص مستقبل الكيان. ولربما كانت مذكرات ديفيد بن غوريون، المنتمي إلى قماشة الغرب الفكرية والقيمية، خير شاهد على تلك النظرة، إذ سيكتب الأخير في مذكراته، بعد نحو أسبوع من صدور القرار 181 (عام 1947) الذي قضى بتقسيم فلسطين إلى دولة عربية تمتد على مساحة 42.3% من مساحتها التاريخية وأخرى يهودية تمتد على مساحة 57.3% منها، مع بقاء القدس وبيت لحم تحت وصاية دولية، أن «العرب غادروا ميادين القتال منذ أمد طويل». ثم ذهب إلى توضيح هذا المدى بعد عام تقريباً، أي بعد الإعلان عن قيام إسرائيل، بقوله إن «العرب ماتت فيهم إرادة القتال منذ سقوط غرناطة» عام 1492.يروي الراحل محمد حسنين هيكل، في كتابه «المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل» عام 1996، أن «الدول العربية أنشأت قيادة عليا لجيوشها لتنسيق إستراتيجيتها في فلسطين»، وأن تلك القيادة كان يتولاها الملك الأردني، عبد الله الأول. «أمّا القيادة تحت العليا فقد أُسندت إلى اللواء العراقي إسماعيل صفوت باشا». ثمّ يسرد رواية لافتة عن الأخير فيقول إنه «قبل أسبوع من بدء القتال، صُودف أن خرج اللواء صفوت من الفندق الذي يُقيم فيه في القاهرة، ليتريّض قبل أن يحضر اجتماعاً للجنة العسكرية لجامعة الدول العربية». ويتابع أنه «بجوار سور الأزبكية، شاهد مجموعة صغيرة من المارة الملتفّين حول رجل يلعب معهم لعبة الثلاث ورقات، التي أثارت القائد العام للجيوش العربية، فقرر المشاركة فيها، وفي غضون عشر دقائق خسر كل ما معه من نقود، وكان بقيمة 286 جنيهاً». ولم ينته الأمر عند هذا الحد، بل دخل اللواء في مشادة مع لاعب الثلاث ورقات، وانتهى الأمر بهما في قسم شرطة الأزبكية، و«تعطل القائد العام للجيوش العربية عن حضور اجتماع اللجنة العسكرية. وحين وصل إليها متأخراً، كانت تفاصيل ما جرى قد سبقته إلى هناك».
يوم 3 تشرين الثاني من عام 1956، كانت القيادة العامة للقوات المسلحة المصرية تعقد في مقرها اجتماعاً لتدارس الوضعين العسكري والسياسي المتولّدين جراء العدوان الثلاثي على مصر، والذي كان في يومه الرابع حينها. ويقول سامي شرف، مدير مكتب عبد الناصر، في مذكراته، إن «الأخير وصل متأخراً إلى الاجتماع، وكان صلاح سالم يشرح وجهة نظره، وعندما أضحى في مواجهة ناصر، لم يتراجع، بل قال له أنت قمت بخدمة عظيمة لهذا البلد، وضحّيت كثيراً من أجله، والآن كتبت عليك المقادير أن تضيف ضحية أخرى، وأن تقبل تسليم نفسك»، مضيفاً أن «السفير البريطاني لا يزال في مكتبه القريب من هنا، وذهابك إليه يحلّ الأزمة كلّها. إيدن (رئيس وزراء بريطانيا) أعلن في خطابه أن الحرب تستهدفك أنت وليس الشعب المصري». المؤكد هو أن صلاح سالم كان يمثل تياراً داخل القيادة، ولم تكن وجهة نظره فردية، ومن غير الواقعي إدراجها تحت بند «الخيانة»، وإنما يجب إدراجها تحت بند فقدان إرادة القتال.
ما دمّرته المقاومة في غزة من آليات يعادل ما استطاعت الجيوش العربية مجتمعةً تدميره في حرب أكتوبر


قد تكون حرب حزيران 1967 هي الأكثر إشكالية قياساً إلى معطيات عدّة، أبرزها أن المناخات الدولية التي جرت فيها كانت تميل إلى كسر الإرادة العربية ودفعها إلى القبول بـ«الواقع» الإسرائيلي، لكن الحرب في النهاية جرت بين جيش هذا «الواقع» وبين أربعة جيوش تتبع مصر وسوريا والأردن والعراق، لم تستطع، مجتمعةً، تدمير أكثر من 400 دبابة وإسقاط عدد من القتلى يُراوح ما بين 776 و983 وفقاً لما تقوله «ويكيبيديا». كُتب الكثير عن تلك الحرب التي لا تزال ترخي بحمولاتها على المنطقة، لكن الجنرال الهندي مانيكشو، المنتصر في الحرب مع باكستان عام 1971، يقول في رواية نقلها هيكل في كتابه «أحاديث في آسيا»، إنه «كان من الخطأ أن تتصوّروا أنكم هُزمتم منذ الساعات الأولى، لأن القوات الإسرائيلية تقدّمت بسرعة في أول يوم»، ثم يضيف أن «تقدمهم السريع كان يمكن أن يكون مصدر خطر كبير عليهم، لو أن قيادة المعركة عندكم لم تفقد أعصابها».
مع حلول خريف 1973، كانت الحالة العربية قد تغيّرت. فالجيوش المهزومة في 1967 قرّرت رد اعتبارها. والأمر في صلبه كان يقوم على استعادة إرادة القتال. الفعل الذي جرى العمل عليه في غضون السنوات الست التي أعقبت تلك الحرب كان قد نجح، بدليل أن العرب هم من بدؤوا حرب أكتوبر، وحقّقوا نجاحات لافتة في بدايتها، لكن مجريات الحرب، ثم الأحداث التي تلتها، بما فيها سيل الوثائق الذي راح يتكشف، تقول إن الأهداف الإستراتيجية التي وضعها صانع القرار لها تنحصر في الدفع بالمنطقة إلى أن تكون حالة ساخنة تفرض نفسها على العالم، وعلى ساكن البيت الأبيض بالدرجة الأولى، لأن الأخير «يحبّ السخونة»، وفقاً لتعبير أنور السادات في صيف عام 1973.
كانت حرب حزيران 1982 مختلفة عن سابقاتها. فمصر حُيّدت عن الصراع بموجب «كامب ديفيد» الذي عنى التخلي عن إرادة القتال. والمطلوب الآن هو كسرها عند «منظمة التحرير الفلسطينية» عبر الضغط عليها في لبنان، وصولاً إلى مقر قيادتها في بيروت الذي حُوصر في ظل صمت عربي مذهل. ومن حيث النتيجة، لم تكن موازين القوى القائمة، بين الجيش السوري والفصائل الفلسطينية من جهة، وبين جيش الكيان من جهة أخرى، تسمح بتحقيق نجاح من نوع ما، لكن المطلوب، إسرائيلياً، كان كسر الإرادة عند الفلسطينيين ورفع «أبو عمار» الراية البيضاء. والمؤكد أن «شارة النصر» التي رفعها الأخير وهو يغادر بيروت في أيلول 1982 كانت هي الرحم الذي استولد، بعد 11 عاماً، مشهد مصافحته مع إسحق رابين في البيت الأبيض، وإعلانه نهاية خيار البندقية سبيلاً إلى قيام دولة فلسطينية.
يمكن لحدث من نوع احتفالية أقامها كيان الاحتلال في خريف 1997، أن يشكّل جردة حساب دالة على ما حدث في المواجهات الخمس السابقة الذكر. في الاحتفالية المشار إليها، كانت سلطات الاحتلال تضع إكليلاً من الزهر على ضريح الجندي الرقم 19600 الذي سقط دفاعاً عن «الوطن اليهودي». مثل هذا الرقم يمكن أن يأتي نتاجاً لأي نزاع حدودي بين دولتين، أو حتى نتيجة خلاف عشائري في دولة واحدة. والخطِر في الموضوع هو أن مراجعات كارثية راحت تجري كنوع من جردة حساب أيضاً لمراحل الصراع السابقة. الرئيس المصري الأسبق، حسني مبارك، قال في أعقاب توقيع «اتفاق أوسلو» إن مصر «خسرت في حروبها مع إسرائيل 100 مليار دولار، فماذا جنت؟»، ولعلنا نضيف أن مصر خسرت أيضاً عشرات الآلاف من الشهداء، وهو ثمن يعادل أضعاف ما ذكره مبارك. لكن ماذا لو فكر الاتحاد السوفياتي، ومعه بريطانيا وفرنسا، عشية الهجوم الألماني على أراضيه، بالطريقة نفسها؟
في اليوم الـ56، ناقصة 7 أيام هدنة، لإطلاق إسرائيل عمليتها البرية ضد قطاع غزة، كان الناطق الرسمي باسم «كتائب القسام»، «أبو عبيدة»، يعلن أن المقاومة استطاعت «تدمير 720 آلية للاحتلال منذ 27 أكتوبر». وهذا رقم يقارب ما استطاعت الجيوش العربية مجتمعة تدميره في حرب أكتوبر قبل خمسين عاماً. الأهمّ مما تَقدّم، هو أن كلّ ذلك التدمير والقتل والوحشية لم يؤدّ إلى «اهتزاز الأعصاب» أو انكسار «إرادة القتال».
هذه هي حرب العرب الأولى منذ بدء الصراع.