يرمز اللون الأحمر إلى السلطة والقوة، ارتبط بالملوك والإمبراطوريات، وغالباً ما يعتبر ارتداؤه محاولةً لإظهار هذه السلطة. ربما كانت مصادفة أن ارتدته المذيعة في قناة «توك تي في» البريطانية جوليا هارتلي بروير أثناء محاورتها الأمين العام لـ «المبادرة الفلسطينية الوطنية» مصطفى البرغوثي. أرادت القول إنّها تملك السلطة في الحوار، وهذا أمر بديهي في عالم الإعلام، كي لا يشعر الضيف بأنّه محرك النقاش. لكن ما هو أبعد من لون الثياب والمهنة، هي ذهنية البيض ونظرتهم الفوقية إلى كل الشعوب ذات البشرة الملونة.انتشر مقطع فيديو للمقابلة، التي أجريت في 3 كانون الثاني (يناير)، لمناقشة عملية اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» صالح العاروري في ضاحية بيروت الجنوبية. حاولت بروير مراراً دفع البرغوثي إلى تبرير جرائم الاحتلال الإسرائيلي، فيما أكد البرغوثي أن نتنياهو «يدمّر الديموقراطية في إسرائيل» مقدّماً تفاصيل عن القضايا العديدة المرفوعة أمام المحاكم المحلية. لكن بروير قاطعته لتقول «حسناً، ليس لدينا الوقت الكافي لدراسة تاريخ بنيامين نتنياهو بأكمله». وبينما كانت تفعل ذلك، واصل البرغوثي الحديث، موضحاً أنه لا يتحدث عن التاريخ بل عن الأحداث التي تجري في إسرائيل اليوم، لتقاطعه بروير مجدداً قائلةً: «من فضلك لا تكرّر ذلك مرة أخرى. ليس لدينا وقت لذلك. لقد أوضحت هذه النقطة خمس مرات بالفعل»، ليجيب البرغوثي «لا أعرف ما الذي لديك الوقت من أجله». هنا انفعلت بروير صارخةً «دعني أنهي جملتي يا رجل، ربما لستَ معتاداً على امرأة تتكلم، لا أعلم، لكنني أريد أن أنهي الجملة أستاذ» لتنهي المقابلة «أعتذر عن وجود امرأة تتحدث إليك».


في الساعات الأولى من عملية «طوفان الأقصى»، خرجت شائعات عن اغتصاب «القسام» لنساء إسرائيليّات، وكانت النسويات البرجوازيات من أكثر الغاضبات ليتّضح بسرعة أنها واحدة من أكاذيب كثيرة، وإن حصلت، فلا مبرر للاغتصاب كونه أداة التعذيب وفرض السلطة من النظام على أجساد النساء. لكنّ هذه الأصوات خفتت عند الحديث عن التحرش والتعذيب الذي تتعرض له النساء في فلسطين، وربما هو مبرّر في عرفِهن لأنهن لسن بيضاوات، ولا يحملن جواز سفر غربياً، لتصبح صور إسراء جعابيص عادية وهي خارجة من المعتقل مصابة بحروق بليغة وصلت إلى 50 في المئة من جسدها بعدما استهدف الاحتلال سيارتها عام 2015. اعتُقلت يومها بصورة وحشية ومنع عنها العلاج، حتى فقدت ثمانية أصابع.
ما قامت جوليا هارتلي بروير ليس غريباً، بل يتخذ أبعاده التاريخية في الفوقية العرقية للبيض، ويأتي من خلفية نسوية بيضاء، على اعتبار أنّنا أمام مشهد قمع رجل لصوت المرأة. إن كان يمكن تعريف النسوية البيضاء، فهي أيديولوجية بحدّ ذاتها، تركز على نساء الطبقة الوسطى والبورجوازية البيضاء، وتعطي الأولوية للقضايا التي تؤثر على هذه الشريحة في المقام الأول، وعلى رغبتها في تحصيل امتيازات الرجل. ويمكن اعتبار ناشطات هذه الأيديولوجيا مناديات بقضايا نسائية لا نسويّة. وهذان إطاران مختلفان، فالقضايا النسائية تعني من يتشاركن البيولوجيا أي من يمكنهن الإنجاب، في المقابل فالنسوية هي الإطار السياسي لكل الفئات المتضررة من النظام الأبوي، تشمل النساء العاملات والمهاجرات والمهاجرين، والأطفال والبيئة.
ترتبط النسوية البيضاء ارتباطاً وثيقاً بالهشاشة البيضاء، التي تظهر عند الحديث عن القضايا المتعلّقة بالعنصرية والعدالة الاجتماعية، ولا تمانع استبعاد مجتمعات بأكملها من النساء. فهي إقصائية، في وقت يفترض فيه أن النساء البيضاوات يعانين من كراهية النساء بالطريقة نفسها التي يعانيها جميع النساء، لكن هذا ليس واقع الحال. وعلى رغم معاناة النساء البيضاوات من القمع داخل طبقتهن، لكنهن يستفدن من تفوّق الأبيض، ويمارسن بدورهن سلطة أكبر على مجموعات أخرى من النساء، وهن غالباً من النساء ذوات البشرة الملونة، والنساء المثليات، والنساء المسجونات، والنساء الفقيرات لأنهن لم يحققن «انتصارات نسوية» كموازنة الأمومة مع الحياة المهنية أو ملكية المنزل، ولم يصلن إلى مركزٍ إداري. لا تعتبر هذه الحركة أنّ قضايا الحقوق الاقتصادية والإسكان وسياسات الهجرة، نسوية بما فيه الكفاية.


لم يستثن الاضطهاد حتى النساء السوداوات البارزات في القاموس النسوي الأبيض، وكانت معاركهن الشخصية ضد العنصرية اليومية في أميركا، إلى جانب نضالهن المهني عندما تحدثن ضدها علناً. من هنا صدح صوت نينا سيمون عندما غنت Young, Gifted and Black وMississippi Goddamn وغيرهما، وباتت أناشيد لحركة حقوق السود. ناضلت سيمون ضد العنصرية في الولايات المتحدة حتى غادرتها إلى ليبيريا في أفريقيا عام 1972، وعادت عام 1980، قائلةً في مقابلة مع صحيفة «واشنطن بوست»: «هذه ليست بلدي. أنا من أفريقيا. لن أبقى هنا وأصبح العمة جيميما». وأضافت: «عندما ابتعدت عن هذه البلاد بتّ أكثر جاذبية. لم تكن يوماً امرأة سوداء أحداً في هذه البلاد».
تتخذ هذه النظرة الفوقية أشكالاً عدة، وتظهر المفاهيم الاستشراقية لواقع النساء في العالم العربي، لتتظهّر عبر تأييد حظر الحجاب في العديد من الدول الأوروبية، موفّرةً المبرر الأخلاقي، عبر مفاهيم المساواة وحقوق المرأة وحرية الجسد، لاغيةً حق المرأة المسلمة في خلع حجابها أو ارتدائه، وما تحاربه من قمع عبر فرض الحجاب، تفرضه بأسلوب آخر عبر حظره. وفي الحالتين، لا قرار ولا حرية للنساء على أجسادهن. يتجسد هنا مفهوم المنقذ الأبيض، وبالتالي تعلن تفوّقه، إذ تعتبر هذه النظرة الفوقية أن الأشخاص الملونين خاضعون وعاجزون، بحاجة إلى أن يأتي الأشخاص البيض إلى عالمهم وينقذهم. هذه العقلية ذات جذور عميقة في تاريخ الاستعمار، فرضت ثقافة المستعمر وأسلوب حياته عبر الحرب والعنف، كما استخدمت لتبرير جميع هذه الممارسات تحت مسمّيات عدة مثل نشر الديموقراطية وتمكين الشعوب وغيرهما.
تاريخياً، شكلت النساء البورجوازيات جزءاً من التفوق الأبيض والعبودية في أميركا تجاه السكان الأصليين، والنساء منهن، ولعبت دوراً أساسياً في تصميم نظام تملّك العبيد من الجنوب الأميركي. وكن الأكثر معارضات للاندماج في المدارس، وعارضن نشاط حركة الحقوق المدنية، وإلى اليوم تلعب النساء البورجوازيات دوراً في نشر أيديولوجية ودعم الجماعات والحركات القومية البيضاء. لم تقف النسوية البيضاء على الحياد أو كمتفرجة سلبيّة أمام العبودية ووحشيتها، بل كانت مشاركة نشطة فيها. قبل الحرب الأهلية الأميركية، لم يكن للنساء البيضاوات سوى القليل من السلطة الاقتصادية أو السياسية، مع استثناء واحد كبير أنه كان بإمكانهن شراء العبيد وبيعهم. وقد فعلن ذلك باستخدام العبيد كوسيلة لبناء الثروة التي لا يمكن نقلها ببساطة إلى الزوج في الزواج.
النسوية البيضاء من دون التقاطعية، ليست سوى شكل من أشكال العنصرية


تُطالب النسويات البيضاوات بالمساواة ويعملن على تمكين النساء، على اعتبار أنهن ضعيفات يجب دعمهن، مجهِّلات دور السلطة الرأسمالية في التحالف مع السلطة الدينية، لإبقاء النساء تحت السيطرة، وخصوصاً أنهن أول من وقفن في وجه خصخصة الأراضي والقضاء على التعاونيات في مرحلة التحول من الإقطاعية إلى الرأسمالية. هن كن الطبيبات الأوليات، اللواتي أعطين النساء القدرة على التحكم بآلام الدورة الشهرية، لمنع الحمل والقدرة على الإجهاض. لأجل ذلك وُصفن بالساحرات، وحوربن وقمعن وقتلن، ووصل عدد النساء اللواتي قتلن بتهمة السحر إلى أكثر من 100 ألف امرأة. كل هذا التاريخ من الاضطهاد والقمع والاستغلال الذي لم ينته حتى اليوم، يقابله خطاب تسطيحي حول عدد النساء في البرلمان، ومديرات تنفيذيات، وإعلاميات قادرات على التأثير على الرأي العام تجاه قضية شعب محتل يشهد عملية تهجير وإبادة متواصلة منذ عام 1948.
من هنا ظهر مفهوم التقاطعية الذي لا يفصل القضايا عن بعضها البعض، وفي الوقت عينه لا يذوِّب قضية في أخرى، ولا يلغي واحدة على حساب أخرى. لا يفصل الصراع ضد الاحتلال والاستعمار، عن النضال ضد العنصرية والذكورية، والسياسات الممنهجة لتدمير البيئة خدمةً لمصالح دول وشركات متعددة الجنسيات. وكما أن القمع والاستغلال مشترك، فالنضال أيضاً مشترك. وكما يرتبط تفوّق النسوية البيضاء بتفوق العرق الأبيض بشكل أساسي، فمواجهتهما مرتبطة أيضاً، حيث يتداخل كلاهما في النظر إلى تجارب النساء البيضاوات من رابطة الدول المستقلة كهدف أساسي للنسوية.

التقاطعية منهج أساسي لفهم مَن هن المعنيّات بالنضال النسوي ومن يحق لهنّ الصراخ في وجه رجل


التقاطعية إطار نظري، طوّرته ناشطات نسويات سوداوات، في سبعينيات القرن الماضي، لتوسيع تعريف النسوية. يعود المصطلح إلى عام 1989، حين ظهر في الورقة البحثية للأساتذة في كلية القانون في «جامعة كاليفورنيا» كيمبرلي كرينشو بعنوان «إزالة تهميش تقاطع العرق والجنس: نقد نسوي أسود لعقيدة مناهضة التمييز، والنظرية النسوية، والسياسة المناهضة للعنصرية». ترى كريشنو أن الحركة النسوية التي لا تتناول حقوق الأرض، والسيادة، ومحو الدولة المنهجي للممارسات الثقافية للشعوب الأصلية، هي حركة محدودة في الرؤية وإقصائية في الممارسة. والتقاطعية منهج أساسي لفهم من هن المعنيّات بالنضال النسوي، ومن يحق لهن الصراخ في وجه رجل لا يسمح لهن بإكمال جملة. المستوطنة التي سرقت منزلاً في فلسطين، وطردت سكانه، قتلت من بقي في المكان، اعتقلت وعذبت وشاهدت فرحة بالتحرش تجاه النساء فلسطينيات، ليست نسوية، وإن كانت قادرة على الإنجاب، وإن قرأت وحاضرت في قضايا النساء، فهي مستعمِرة، وقامعة، ومستغلة، ومحتلة، وهي تتحكم بحياة نساء ورجال وأطفال وكهول وأرض، وماضٍ ومستقبل شعب، وتغضب حين لا تتمكن من فرض رؤيتها، فقط لأن المتحدث أمامها رجل.



تحريض على إبادة غزّة


تستعدّ «هيئة تنظيم الاتصالات والبث الإذاعي والتلفزيوني» في بريطانيا Ofcom لفتح تحقيق بعدما تلقت أكثر من 15,500 شكوى «خلال أقل من أسبوع» ضد الإعلامية البريطانية جوليا هارتلي بروير (الصورة) على خلفية التصريحات العنصرية التي تفوّهت بها أثناء استضافتها الأمين العام لـ «المبادرة الفلسطينية الوطنية» مصطفى البرغوثي. وكانت المقابلة انتشرت كالنار في الهشيم على مواقع التواصل الاجتماعية، مثيرةً غضب الناشطين الذين اتهموها بالعنصرية والوقاحة وبأنّها «وصمة عار» على الإعلام البريطاني. وتعالت الأصوات والدعوات المطالبة بإقالة المذيعة من قناة «توك تي في» البريطانية. إلا أنّ بروير المعروفة بصهيونيتها وافتقادها للموضوعية وانحيازها الكامل والأعمى إلى إسرائيل، تحاول دوماً في استضافتها لشخصيات سياسية وناشطة أن تحوّر النقاش ليصب في مصلحة إسرائيل. ولا ترى أي ضير في التخلّي عن أبسط القواعد المهنية والأخلاقية والإنسانية لخدمة السردية الصهيونية. قبل يومين، انتشر مقطع لها وهي تسوّق للتطهير العرقي في غزة، واصفةً إياه بأنّه «أفضل شيء يمكن القيام به». ومجدداً، تعالت الأصوات على السوشال الميديا متهمةً بروير بأنّها تحرّض على الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والقتل الجماعي. ووصف الناشطون تحريض بروير بأنّه «جريمة يعاقب عليها القانون»، إلا أنّ الغرب لن يتحرّك طالما أنّ دعوة هارتلي البيضاء تتوافق مع مصالحه الاستعمارية.