كتاب «انقضاء الشرق»، للأستاذ سمير عطا الله، صدر منذ سنتين، والغايةُ من قراءَته الآن هي راهنيته. وُصِفَ بأنَّهُ «كاتبٌ مثابر، ساخرٌ بجدّية، جادٌّ من غير ادّعاء، مثقّف، ولكن من دون أن يستعرض مخزونَهُ الثقافي...» (عبدو وازن)، و«ظاهرة يتيمة، هي دُرَّةُ زمانها. نجمُ الكتّاب اليوميّين» (أنسي الحج). كتابُهُ ليس مجموعة مقالات. إنهُ روايةٌ بعِدَّةِ فصول. كانت لنا حوارات عديدة في نيويورك وفي نيوجرسي. سَمَّيتُهُ «ملفونو»، أو «ملفانا» بالآشورية الآرامية، أقربُ كلمة عربيَّة إليها «المُعَلِّم». يعيشُ الحدث، ويرسم الصورة، ولو قاتمة، ويستعين بالذاكرة فيستحضِرُ التاريخَ. فالحدثُ عنده ليس حالة منعزلة في الزمن، فالتاريخ، عنده، نهرٌ متواصل الخرير، مصدرُهُ ينابيع فكرية، وجغرافية، وبيئية. هو يكتب عن أديناور وديغول، وفي اليوم نفسه، يكتبُ عن عفيفة إسكندر، طفلةِ الموصل، ومطربةِ العراق؟ عن أيّ عراق تحدَّث؟ «أهو عراق نوري السعيد؟ أم عراق عبد الكريم قاسم؟ هذا دخلَ شوارع بغداد على رأس دبّابة، والآخر سُحِلَ في شوارعها. وكلاهما أُغرم بصوتها». إنَّهُ العراق الذي كان. «كانت طفلةُ نينوى تغنّي عراق حمورابي وعراق جلجامش، وعراق شعراء الطليعة في العالم العربي: "نيبور نيبور: أين الخُبزُ والماءُ/ الليلُ وافى وقد نام الأدلّاءُ؟\ والركبُ سهرانُ من جوعٍ ومن عطشٍ/ والريحُ صرٌّ، وكلُّ الأفقِ أصداءُ/ بيداءُ ما في مداها ما يبينُ به/ دربٌ لنا وسماءُ الليلِ عمياءُ/ بغدادُ مُدّي لنا باباً فندخُلَهُ/ أو سامرينا بنجمٍ فيه أضواءُ» (بدر شاكر السياب، «العودة إلى جيكور»). وفي «غريبٌ على الخليج» يتواصلُ الحنين: «الشمسُ أجملُ في بلادي من سواها... واحسرتاه، متى أنامْ/ فأحسَّ أنَّ على الوسادة/من ليلِكَ الصيفيِّ طلًّا فيه عِطرُكَ يا عراقْ؟/ بين القرى المتهيِّباتِ خطايَ والمُدُنُ الغريبة/ غنَّيتُ تربَتَكَ الحبيبة\ وحملتها فأنا المسيحُ يجرُّ في المنفى صليبه».
ربيع عربي أم حفيف الأفاعي الغربية؟ «الربيعُ لا يُصنعُ في الشارع، يصنعه المتنوِّرون والمشغوفون بالحرية» (ص: 39) وبالفكرِ والرؤيا والابتكار.
يقول: «أمضيتُ طفولتي في شارع أديب إسحق»، «حيّ الحوارنة»، ويقعُ على كَتِفِ «حيّ السريان» في الأشرفية، «بسطاء، يعملون في العتالة على البور. أمّا أبناؤها فذهبوا إلى الجامعات، تاركين للذكريات، وحدها، صورة الحبالِ الغليظة التي رافقت مرارة الآباء» (ص 120)، هو صوتُ «المستورين... أصحاب الزوايا» (ص 113) الذين انطلقوا «يعبرون الحدودَ والمسافات، ويعظِّمون أحجام بلدانهم الصغيرة»، يحملون «صحّارات العنب والليمون في مواسم القطاف المضنية، التي سوف يجعلونها مواسم فرحٍ وغناءٍ، ومسرحاً مُغَرِّداً». «همُّهُم، وفي نهاية المطاف، في تَرحالهم في أرجاء هذا المشرق المتأجج، الإيجار والخبز ومدرسة الأبناء» (ص: 85). أولئك الذين «لا يمرُّ بهم أحد، ولا يدري بهم أحد، إلا ساعة التقاط الصور، بعد وقوع الحرائق» (ص 19:)، و«ما لبثتُ أن شاهدتُ هذه الوجوه الأليفة على الشاشة، تنزفُ منها الدماء وتعلوها صفرة الرعبِ. وللمرة الأولى أدركتُ أن لها أسماء. فالصورة التي في ذهني أن هؤلاء البسطاء يحملون اسماً موحَّداً هو "المستورون"، وشكلاً واحداً تقريباً، وزيّاً موحداً هو أيضاً زيّ الستر» («حي المستورين»).
هذا العالم العربي تعيسٌ، فهو «أوطانٌ للبيع، وشعوبٌ للإيجار، والنتيجة أمَّةٌ هالكة تضحكُ من جهلها الأمم» (ص: 84). «ليسَ في العالم العربي وطن، لأنه ليس فيه مسكن، الذي هو أبسط حقوق وإنجازات الإنسان، الذي إنما خرج من الكهف المظلم ليبني بيتاً في أشعة الشمس وضوء القمر... تقومُ الوطنية على الألفة، إلا أننا نعيشُ في ثقافة الغزو... إن قرودَ الشمبانزي تخوضُ معارك شديدة ما بينها، ثم تتصالحُ بعد أربعين دقيقة، وتتآلفُ!... وهذا الهلال الخصيبُ الذي هو اليومَ أهلَّة اللاجئين والخائفين والمعذبين والذين لم يعودوا يأملون في شيءٍ أو في أحد. شعوبٌ طموحُها البطّانيات، وألَّا تموتَ غرقاً في الوحل» (ص: 120-121)... هذا زمنُ اليافطات، لا الكتب... النظام العربي «ألغى الحالة الثقافية والحضارية والفكرية. كان مفكرو مصر يلتقون في صالون العقّاد أو مي زيادة، فصار المفكرون العرب يلتقون في سجون العرب» (ص: 158). لقد افتَقَدَ العربُ مصرَ، وافتقدَ المستورون العرب عبد الناصر: «تُشعِرُنا مصر بنوعٍ غامضٍ من الدفء والحماية. عندما تهون، يهونُ معها العربُ. فعندما تخرجُ عن العروبة تقلُّ أهمية العرب. وعندما تنأى، كما فعلت في كامب ديفيد، يصطرعُ العربُ في ما بينهم على مكانها. ثم يكتشفون متأخرين، كما هي عادة أواخر القافلة، أن أحداً لا يملأ مكانها سواها» (ص: 195). «وهُزِمَتْ مصرُ جمال عبد الناصر، في حروبها مع إسرائيل والغرب، فتَيَتَّمَ العربُ، وأصبحوا فريسةً مُطارَدَة ومن جميع الجهات... جمال عبد الناصر، مات فقيراً. الباقون ماتوا أرقاماً سرية في بنوك سويسرا، أو سبائكَ ذهبٍ، مغلَّفةً بشعارات الثورة» (ص: 86)... وانتهت مصر مع أنور السادات رئيساً. عندما كان السادات فتى، «لم يحلم بأن يكون رئيساً بل ممثلاً في مسرح الزمالك» (ص: 196) فانتهى ممثلاً في الكنيست، وبطلاً في مسرحية كامب ديفيد، خاذلاً رفقاءه في المعركة. كان العربُ يتطلَّعون إلى مصر، إلاّ أن المشكلة كانت دائماً أن قادة مصر كان فيهم شيءٌ من الفرعونية في نظرتهم إلى العالم العربي. فـ«كلُّ ما هو خارج مصر هو دون مصر» (ص: 198).
يظلُّ المستورونَ في ذاكرته، فيتحسَّرُ «الملفونو» على الزمن الجميل: «كنتَ تسافرُ في المدن العربية فتقرأُ "شارع بغداد" و"ملحمة الجزائر" و"بقالة فلسطين" و"خياط الشام" و"مصبغة مصر" و"مخازن بيروت". أحلامٌ صغيرةٌ يحملُها أصحابُها إلى كلِّ مكانٍ، ويكتبونها بمهجتهم على أبواب المحالّ». ولكنه الزمنُ الرديءُ اليوم، «زمنُ اليافطات، لا الكتب» (ص: 123). الآن، «زالت الإسكندرية "كمدينةٍ للذكريات" ودُمِّرَتْ بيروت "كمدينة للمنارات" وصار يُقالُ إن بغداد آخرُ المدن، ولا ليلةٌ فيها من ألف ليلة. وأطفأت القاهرة أضواء النهضة باسم الدستور. وها حلب ودمشق في مرارة المصير وحرق الأوطان» (ص 47)، «مرابِضُ الخنوع استُثنيَت»... أمّا الوطنَ الذي حَمَلَ العروبة في قلبه أجيالاً وأجيالاً، «قلبُ العروبة النابض»، صلبوه على طريق الجُلجُلة، وأمَلُهُ في القيامة. لم يتغيَّرْ شيء، «جماهيرُ العرب لا تجيدُ سوى الصراخ، تحملُ أكفانها، كأنما الحياة تصنعها الجثثُ، والدولُ تُبنى في الشوارع. شعوبٌ مدرَّبةٌ ومروَّضة على الابتهاج باليأس والإنجازِ بعدد الموتى» (ص :171). سئمت الجموع نحيب الأنطمة على الضحية، لذا استفاقت، فلسطين في غزَّة.
«كلُّ ما في العالم العربي اليومَ طائفيٌّ أو مذهبيٌّ أو عرقيٌّ» (ص: 160). «السمُّ الأكبر والأكثر انتشاراً ليس كيميائياً، إنه الجنون الذي يصيب العموم ويسوّي أرواح الناس بأرواح الذباب، ويجعلُ السلوك بين البشرِ مثل السلوك بين البعوض» (طبيب مصري)، «الإنسان يوضاس في طبيعته» (ص: 71)، «الإنسان خُلِقَ ولم يولد بعد... التعريفُ الأصحُّ للإنسان ليس أنه حيوانٌ ناطق، بل إنه الأشد افتراساً بين أهلِ الغابات، بين شعرة معاوية وعمامة الحجاج سنون معدودة، وبين الحجاج وبيننا قرونٌ عديدة، وما زال العالم العربي يعتمرُ عمامة الحجاج..: متفجراتٌ متلاحقة، واغتيالاتٌ مباحة، وبلدٌ مشرَّعٌ على خطاب الموتِ. وَعيدٌ دائمٌ، ووعدٌ دائمُ الغياب. لا يصنع العربُ سوى الهزائمِ والانتحارات. وسوف يكونُ للكواسر مهرجان كبير لأن رمادَ دمشق مأدبةٌ مزيَّنةٌ بألوان التاريخ. آخرُ حواضرِ المشرقِ، سوف تنضمُ إلى خطِّ السقوطِ العربي الطويل. العنفُ يعتبرُ الموتَ والتشريدَ والدمارَ انتصاراً... إنها "شرعة الأنواء لإشراع المراسي"» (ص: 170). الأنظمة تتخبّى وراء إصبعها، إنَّهُ زمنُ السقوطُ العربي؟ و«للسقوط نهاية واحدة هي التحطم» (ص: 156).
سوريا «قلب العروبة النابض... والنظام العلماني الوحيد في المنطقة» (ص 134). «سوريا كانت موئلاً تعددياً أكثر من لبنان، نظراً إلى سعتها وموقعها»... «سوريا ليست لبنان، وليست حتى العراق. ليست فرعاً من فروع الأمة، بل جذر أساسي في تاريخها وجغرافيتها وتكوينها. لم يستقبل بلد عربي آخر من الموجات البشرية ما ورد إلى سوريا عبر قرون. ولذا يبدو اهتزاز هذه الفسيفساء المتجذرة كارثياً على المنطقة برمّتها» (ص: 25).
أمّا عن الوطن الصغير، فقد مرَّت عليه مصائبُ ذلك العالم العربي مع توالي أزمنة الفرح والرداءة، أول الفرح كان الرؤيا، جاءت به حركة الحداثة، بينها «قلّة من السيدات الجميلات»: «بأيّ محبة نتذكّرُ سعاد نجَّار ومي عريضة، وبأيّ حنين؟ كان ذلك عصر البحث عن الجمال من أجلِ ذرَّة، ومن أجل تحويلِ الجمال إلى مهرجانٍ في ضوء القمر وخفرِ نجمة الصبح» (ص 157). حينها كان «الاستقرار السياسي (يبدو كأنه) دائم، والاستثمارات تتدفق، والشعراءُ قوافل، وطالبو الفرح يتهافتون. أما الصحافة نفسها فكانت في عزِّ الزهوِ. هذه العاصمة الصغيرة تسيرُ كتفاً إلى كتف مع كبرى عواصمِ العرب» (ص 114). تقول خالدة السعيد عن ذلك الزمن الجميل: «عشرون سنة من مغامرة الصدق وشجاعة قول الحق، ومعارضة كلِّ سُلْطَةٍ ظالمة، ومحالفة كلِّ ذي قضية؛ عشرون سنة هي العصرُ الذهبيُّ الخاطف لدولة الحلم، لدولة تحقَّقت في لبنان بموازاة دولة السلطة السياسية والأجهزة الإدارية، معارِضةً لها وكاشفةً لتناقضاتها المزمنة. دولةٌ، هي التي صنعت مجد لبنان الحديث، وفرضت هيبته. إنها دولة الثقافة، وركنُها القويُّ الصحافة...، تمسكٌ بحلم الدولة العادلة المبنية على المعرفة، وسخرٌ من الأساطير. رفضُ القوقعة "الديموقراطية" التي تفتقرُ إلى الحيوية والتجدد والعدل، وتنغلقُ على المعرفة».
حركة الحداثة! من بيروت كانت انطلاقتها، شملت الشعر والأدب والمسرح والموسيقى والنحت والرسم. بلدٌ كثيرُ الحرية والفكر...ندوةٌ وكتبٌ وحياةٌ، هذا كثيرٌ على السور العربي، ولا يُطاق... كان يجبُ كَسْرُ لبنان لأن عدواه خطيرة... فحلَّت الأزمنة الرديئة، «يأتيه الآخرون من أجل طمأنينتهم، ويهاجر أهلُهُ من أجلِ سلامتهم... شعبٌ موزَّع الولاءات يُعطى وطناً موزَّع الأطراف» (ص :177). «يخوضُ المعركة الانتخابية في الأشرفية نَجْلُ بشير الجميل وحفيدُ كميل شمعون. وفي الشمال يخوضُ المعركةَ حفيدُ سليمان فرنجية ونَجْلُ رينيه معوّض. وجميعُهُمْ أبناء مأساةٍ دموية لا مثيل لها» (ص: 80). «وإذ تتقاتلُ "العائلاتُ" في ما بينها، تسيلُ دماءُ الآخرين ويبقى العرّابون في حصونهم» (ص: 43)، ويبقى الناس في دوّاماتهم الطائفية. وحدهُ منطقُ «داوِني بالتي هي الداءُ»، «إنها عودةٌ إلى عصر الأسباط» (ص: 78). «توصّلَ اللبنانيون إلى "الميثاق" أو شرعة التعايش التي استمرَّتْ حتى عام 1975 من دون أيِّ ضحيّة، لكنهم (في الحرب)، فقدوا 200 ألف قتيل، وفقدوا إنسانيتهم، وفقدوا مكانتهم في العالم، من أجلِ ميثاقٍ آخر هو اتِّفاق الطائف».
ما الذي جلب على هذا المشرقِ كُلَّ هذه الويلات؟ «يتساءلُ الملفونو. «من هو المجرم الحقيقي: المُحَرِّض أم القاتل؟» (ص: 186). «وهذا الهلال الخصيبُ الذي كان ملجأً للاجئين والمذعورين والمعذبين، ما الذي أوصلَ مُدُنَهُ إلى هذا الدمار الشامل»؟ خَلَقَ الله عالم البشر فقابلَهُ عالم الأفاعي، وهي التي أخرجتْ آدمَ من الجنَّة، وهاجمَتْ قاربَ «إنانا» في عودتها من السماء حاملةً شرائع الحضارة لسومر وأورورك، وهي التي سرقتْ عشبة الخلود من جلجامش في عودته من رحلته إلى غابة الأرز الخالد، في مزارع الجليل تصدّى لهم السيد، مُسَمِّياً إيّاهم بأسمائهم: «يا أولاد الأفاعي، كيف تقدرون أن تتكلموا بالصالحات وأنتم أشرار... إنّي أريد رحمةً لا ذبيحة».
هذه الأرض، وفي أوائل القرن العشرين، سيطرت عليها الأفاعي الغربية، أعطيناهم المادية المجبولة بالروحانية، فأعطونا الفاشية والنازية والصهيونية، أعطاهم العراق جلجامش، وإينوما إليتش، وشريعة حمورابي والثروة، فأعلنوه وطناً خارجاً على الشرائع، وسلبوا الثروة ودمَّروه.
دولة البيت الأبيض، «بنتهُ سواعد (نصف) العبيدِ الذين خُطِفوا من غربِ أفريقيا»، والنصف الآخر لم يصل، لم تكن سواعده كافية القوَّة، عرابيد أميركا رموهم في البحر، وما زالت دولتهم في عربدتها على أوطاننا المحتلَّة، و«المتغطرسون يرفضون ثقافة الالتقاء لأنها غير مجدية» (ص: 14). عربدتهم، اليوم، في فلسطين تزدادُ وحشيَّةً، «القدسُ للبعض محجَّة وبتنوّع أديانهم، ولكنها، وللجميع، قَلْبُ وَطَنٍ ونَبَضُ أمَّة».
ماذا يعمل المستورون الخائفون في دول الهلال الخصيب: فلسطين، جبال لبنان، مزارع سوريا، وشوارع بغداد ونينوى؟ فـ«خوف الأوادم لا يكفي لردّ البرابرة» (ص :81). نسْلُ لوط لا يأبَهُ لنحيبِ الأطفالِ. هذه النار من أصحاب ذلك الأتون. كان بالأحرى القضاء على عالم الأفاعي بدلاً من القضاء على الشرق. «طفل المذودِ ونجّار الناصرة هَزَم روما (ص: 123)... فهل يستَعيدُ أطفالُ الناصرة المسيرَةَ»؟ (ص: 123). هل سيستعيدونها ذات يوم؟ قسَماً، ذات يوم.

* كاتب وطبيب