للمقاومة أشكال كثيرة. أحياناً، تكون بإعلاء الصوت، فيما قد تأخذ شكل الصمت في أحيان أخرى، كما في رواية «صمت البحار». وفي الشهر الحالي، قدّم الـ #إضراب_من_أجل_غزة جرعة أمل لأهالي غزّة الذين يواجهون حرب إبادة إسرائيلية حقيقية. حظي الإضراب بنسبة كبيرة من الالتزام حول العالم، وسط كلام عن تأثيره الاقتصادي أيضاً. وفي الآونة الأخيرة، جاء ذلك في وقت، تمكّن فيه مؤثّرون على مواقع التواصل الاجتماعي من ترك أثر في عالم الميديا، عبر المحتوى الذي ينشرونه عن السردية الفلسطينية، مخاطبين الرأي العام العالمي الذي دائماً ما سيطرت عليه البروباغندا الصهيونية. ولعلّ أبرز هؤلاء هي الناشطة والإعلامية إسراء الشيخ المولودة لأسرة فلسطينية يعود أصلها إلى قرية يعبد التابعة لمحافظة جنين. تنقّلت للعيش في بلدان عربية مختلفة، منها الأردن والكويت لتستقرّ أخيراً في تركيا. منذ كانت في الخامسة من عمرها، عرفت إسراء المسرح، فحظيت بوعي مبكر وانفتحت على عوالم لا يعرفها الصغار. وكان والدها من أهل السياسة والفكر، فنهلت منه الكثير.


بدأ مشوار إسراء منذ دخولها مجال الإعلام، فأصبحت فاعلة على منصات التواصل الاجتماعي، وأدركت أنّه يتعيّن عليها أن تكون فاعلة من أجل قضايا بلدها الأمّ. رغم دراستها للهندسة الوراثية، إلّا أنّها عرفت طريقها إلى مهنة المتاعب عن طريق مسابقة للمناظرات استطاعت عبرها إثبات نفسها، قبل أن تنتقل إلى العمل في إحدى القنوات الإخبارية التي تبث من عمّان. هكذا، اختيرت لتقديم «ألف باء حياة» مع الدكتور عبد الرحمن الهاشمي، وهو برنامج نفسي اجتماعي يطرح قضايا اجتماعية أساسية.
لكن وضع إسراء الصحّي لعب دوراً بارزاً في حياتها، إذ لازمتها مشكلة منذ ولادتها جعلتها تخضع لتسع عمليات تقريباً. وفي هذا الإطار، تقول في تصريح إعلامي: «أكسبتني هذه التجربة صلابة في الشخصية وجرأة في المواجهة، وأصبحتُ أحبّ دخول المستشفيات لأتأمل الأطباء وأتعلّم لغتهم ومصطلحاتهم، ولتبزغ أوّل أحلامي بأن أكون طبيبة».
ترى إسراء في الإعلام والطب وهندسة الجينات والسياسة وسائل تقودها إلى هدف واحد. ولهذا، فليس هناك نقلة نوعية كما يظن البعض: «طالما أنّني مدركة أنّ كل هذه الأمور هي وسائل تحقّق الأهداف، فمهما اشتغلت وأينما كان موقعي في الحياة، سأتمكّن من الوصول إلى مبتغاي... أقول دائماً إنّه إذا شعرت يوماً بأنّني استنفدت كل طاقتي في الإعلام، ستروني في مكان آخر وعمل آخر...». في وقت سابق من الشهر الحالي، دعت إسراء على حساباتها على السوشال ميديا إلى الإضراب العام من أجل غزّة في 11 كانون الأوّل (ديسمبر) 2023، تزامناً مع إفشال الولايات المتحدة مشروع قرار في مجلس الأمن يُلزم الاحتلال الإسرائيلي بوقف حرب الإبادة والتطهير العرقي التي يشنّها على القطاع منذ السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي. دعوات الإضراب الشامل حول العالم، جاءت تضامناً مع أهالي غزّة الصامدين في وجه الوحشية الإسرائيلية وللضغط على الحكومات وإرغامها على التحرّك جدياً لوقف المجازر الصهيونية التي خلّفت حتى كتابة هذه السطور أكثر من 20 ألف شهيد معظمهم من الأطفال والنساء. قالت إسراء إنّ الفكرة وُلدت بشكل عفوي، وخرجت من قلب صادق، وخلال ساعات تفاعل معها الجميع، وبدأت التواصل مع الأصدقاء في كل أنحاء العالم. هكذا، شكّل كل منهم فريقه الخاص، ومنهم من اتصل بالنقابات ومؤسسات المجتمع المدني. وأوضحت الشيخ عبر منشورات عدّة أنّ هدفها هو وقف العدوان على غزّة، وفتح معبر رفح، ووقف الدعم الاقتصادي لشركات أميركية عن طريق وقف استخدام بطاقات الائتمان، لتشكيل حالة من الضغط على الإدارة الأميركية.
وعبر صفحتها على فايسبوك، لفتت إسراء إلى أنّ «الإضراب هو البداية فقط في هذه الحملة... نعمل على الضغط من أجل تبنّي الحملة من النقابات ومؤسسات المجتمع المدني والمنظمات العربية والعالمية. كثير منهم كان يخشى المبادرة والآن بدؤوا التواصل من أجل التفاعل بعدما شاهدوا حجم التفاعل الشعبي... البعض تحجّج بضيق الوقت وأنّ الأمر يحتاج إلى مراسلات، لكن سنضغط من أجل إعلان الأمر من قبلهم». وتابعت أنّ هناك منظمات ونقابات في أوروبا بدأت التواصل «معي من أجل تمديد الحملة، والتنسيق معهم، وسنتبنى النشر عالمياً. في كلّ الأحوال، بادر أنت شخصياً غداً، لا تقم بأي عملية مالية من شأنها تحريك الاقتصاد، لا معاملات بنكية ولا تحويل ولا بيع أو شراء، ولا استخدام مواصلات ولا سفر. وكل منكم يعمل على الضغط على مؤسسته وشركته والمحيطين به. المطاعم والكافيهات بدأت تتحرك، ممنوع التراجع والاستسلام، ممنوع اليأس والإحباط، مستمرون إلى حين وقف العدوان على غزة وكسر الحصار».
قادت الناشطة والإعلامية الفلسطينية الدعوات لـ #إضراب_من_أجل_غزة

بعدها، قادت الشيخ مبادرة جديدة لمعالجة الأزمة الإنسانية المستمرّة في غزة نتيجة العدوان الإسرائيلي الهمجي على القطاع. وإدراكاً منها الحاجة إلى ردّ فعل قويّ وموحّد، دعت إلى توجيه ضربة تهدف إلى زعزعة الأسس الاقتصادية للحكومات الغربية الداعمة للاحتلال والإبادة الجماعية في 18 كانون الأوّل الحالي. وشملت الدعوة الأفراد في جميع أنحاء العالم، وحثّتهم على بذل جهود متضافرة لسحب الأموال من البنوك الغربية، وبالتالي توجيه رسالة قوية عبر الضغط الاقتصادي. لم تقتصر الدعوة على التعاملات المالية، بل شملت تضامناً أوسع يتمثّل في حثّ العرب والمسلمين على مستوى العالم على دعم المؤسسات المصرفية العربية والإسلامية. مطالب الإضراب كانت واضحة وموجزة تعكس الحاجة الملحّة إلى تحقيق العدالة في غزة وتشمل: الوقف الفوري للعنف والإبادة الجماعية، وإنهاء السياسات الداعمة للاحتلال والتطهير العرقي، وقطع إمدادات الأسلحة، وفرض عقوبات عالمية على القوى المحتلة، ومحاسبة قادتها، مع ضرورة فتح حدود غزة من دون قيود أمام المساعدات الإنسانية.
في خضم الاعتداءات الصهيونية الوحشية والواقع القاسي، تبيّن أنّ المبادرات الفردية ليست بلا جدوى. ففي عصر الديجيتال، ظهرت أشكال مختلفة وناجعة من المقاومة. وعن هذه النقطة تحديداً، تقول إسراء في مداخلة إعلامية: «كثير من أحرار العالم تبنّوا هذه الفكرة فعلياً، وعملوا من أجلها بصدق، ومن أجل وقف إطلاق النار، وهذا هو الأمر الذي أردنا أن نصل إليه عبر فكرتنا... بمعنى أن نؤثر اقتصادياً ونعطّل عجلة الاقتصاد ولو بشكل جزئي من باب التأثير على تروس الإبادة الصغرى، لعلّ وعسى أن تؤثر على تروس الإبادة الكبرى الداعمة بشكل مباشر لقوّات الاحتلال». وهكذا ندرك أنّ المقاومة بحاجة إلى شخصيات تستطيع التأثير في الرأي العام العالمي بكل ما أوتيت من أدوات حديثة، وعلى رأسها تلك المرتبطة بالعالم الافتراضي.