يكاد لا يشغل إسرائيل، في حربها المتواصلة على قطاع غزة كما في حروبها السابقة، أكثر من «خطر» تسرّب الحقائق إلى أعدائها أو حتى إلى جمهورها، وهو ما يجعل «الحقيقة الثغرة الأولى في كلّ حرب»، بحسب موشيه نجيبي، أستاذ القانون والإعلام في الجامعة العبرية. لا يقتصر الأمر، هنا، على قيام الرقابة العسكرية بمنع انتشار أيّ معلومات تضرّ بالجيش، بل يتجاوزه إلى حدود الانخراط في «معركة دفاعية متواصلة»، وفقاً لتوصيف الرئيس السابق للرقابة العسكرية، العميد دورون بن باراك، بهدف منع انتقال «المعلومات السرّية» إلى «المنطقة الحيوية للعدو»، وأخرى هجومية ترتكز على الحشد والمناصرة وكسب الشرعية والتأثير. وعلى هذا الأساس، تبني إسرائيل إستراتيجيّتها الإعلامية في الحروب، والقائمة بشكل رئيسي على تصدير الناطقين العسكريين، وتصنيع الخبر وتسويق روايات مضادّة وتسريبات، توازياً مع التحرّك الاستنسابي، أي مرونة العمل وتطوير المهمات والصلاحيات بحسب طبيعة كلّ معركة.
حرب «نظيفة»
«الحدث صعب جداً، مزيد من التفاصيل حالما تسمح الرقابة بذلك»؛ دائماً ما تتكرّر هذه العبارة، إلى جانب عبارات أخرى من مثل: «لا إصابات»، أو «إصابات طفيفة، بينها واحدة خطرة»، في الإعلام العبري، فيما ثبت عبر التجربة، أنه كلّما ازداد الإصرار الإسرائيلي على النفي، كلّما كان المنفيّ جليلاً. هنا، يتقدّم ما تشهده الجبهة اللبنانية منذ السابع من أكتوبر، حيث تبدو إسرائيل معنيّة باحتواء التصعيد العسكري، وهو ما يقتضي فرض حظر شبه كلّي على قتلاها، كي لا تكون ملزَمة أمام جمهورها بتدفيع «حزب الله» الثمن، فضلاً عن أن تسرّب أعداد القتلى سيؤثّر في دافعية الجنود المقاتلين في الجبهة الجنوبية، ومعنويات المجتمع الإسرائيلي عموماً. لكن رغم كلّ القيود التي جرى فرضها، وما استُحدث من قوانين جديدة خلال الحرب، كالتحكّم في بيانات المستشفيات، إلّا أنّ إحصائيات أعدّتها «الأخبار» بناءً على وثائق رسمية لوزارة الصحة الإسرائيلية، أفادت بوقوع 1802 إصابة على الحدود مع لبنان منذ السابع من أكتوبر. والواقع أنّ هذا الرقم ليس مستغرَباً، بالنظر إلى تأثير الصواريخ الموجّهة على الدبابات واختراقها التحصينات وإحداثها ضغطاً انفجارياً مميتاً، فضلاً عن المقاطع المصوّرة للإعلام الحربي والتي تؤكد إيقاع خسائر في صفوف العدو.
على الجبهة الجنوبية، اعتمد جيش الاحتلال، منذ بدء الحرب، مبدأ التقطير في الإعلان عن خسائره


فجوات متعاظمة
على الجبهة الجنوبية، اعتمد جيش الاحتلال، منذ بدء الحرب، مبدأ التقطير في الإعلان عن خسائره، ولكن تسارع وتيرة هذه الخسائر ألزم الرقابة العسكرية مجاراته في نشر أرقام القتلى والجرحى. والواقع أن مجرّد عدد الآليات المدمّرة على أيدي المقاومين، والذي تجاوز الـ500 دبابة، كافٍ بذاته لاستنباط حجم ما يحدث في الميدان، فيما شهادة أحد العمّال في مقبرة «هرتسل» العسكرية، ويدعى دافيد باروخ، والتي تحدّث فيها عن جنازة كلّ ساعة في تلك المقبرة وحدها، قائلاً «(إننا) دفنّا أكثر من 50 قتيلاً في 48 ساعة» لا يصبّ إلّا في الاتجاه نفسه. أيضاً، أظهرت إحصائية لصحيفة «هآرتس»، نُشرت في الـ10 من الشهر الحالي، وجود ثغرات في أرقام الإصابات التي يقدّمها الجيش الإسرائيلي؛ إذ يتحدّث الأخير عن 1593 جندياً مصاباً منذ بدء الحرب، و10584 مصاباً من الجنود والمستوطنين على السواء، ما يعني أن الجنود يشكّلون 15% فقط من إجمالي الإصابات، وهو ما يعدّه غير منطقي. كما كشفت الإحصائية عن عمق الفجوة بين إحصائيات الجيش، وتلك التي قدّمتها 9 مستشفيات إسرائيلية فقط، والتي تفوق وحدها 3.6 أضعاف ما جاء في الأولى. هذا من دون المقارنة مع أرقام وزارة الصحة الإسرائيلية، والتي أشارت، بحسب إحصائية «الأخبار» نفسها، إلى أن 8882 إصابة وصلت إلى المستشفيات من الجبهة الجنوبية فقط.

جنازات بيضاء فقط
منذ بداية الحرب، تلاحَظ غلبة الملامح الأشكنازية البيضاء على جنازات الجيش المهيبة، في حين تغيب الملامح الأفريقية والشرقية، وهذا ما يفسَّر بكون من يُزجّ بهم في مقدمة القوات المقتحمة لـ«خط الموت»، هم من الطبقة الأدنى، أي أولئك الشرقيين والدروز الذين يشكلّون النسبة الأكبر من الجيش، وتنشط العروض المالية مع أهاليهم لعدم الإعلان عن مقتل أبنائهم لقاء مبالغ ضخمة. أمّا القتلى من البدو، فتحرص الرقابة على تسليمهم ليلاً، ليتمّ دفنهم في العتمة، بحضور ممثل عن الشرطة الإسرائيلية، وعدد قليل من الأقارب المجبرين على التكتّم. ولا تشمل جردة القتلى، بالطبع، «الجيش الصغير» من المرتزقة، الذين تمّ استدعاؤهم في بداية الحرب من عدّة دول أوروبية للقتال، وتقديم خدمات عسكرية إسنادية للجيش الإسرائيلي، مقابل أجر يصل إلى 4000 يورو في الأسبوع، بناءً على تحقيق أجرته صحيفة «إلموندو» الإسبانية.